ليست الحداثةُ العُمرانية محضَ بنايات شاهقة، بواجهات زجاجية براقة، ولا هي طرقٌ سيَّارَة، وسيارات مجهزة بآخر صيحات التكنولوجيا، وما هي بقطارات فائقة السرعة، ولا بأكبر الموانئ وأكبر الملاعب والمسارح في قارة ما. وليست الحداثةُ السياسية مجرد انتخابات، ومقاطعات وبلديات وجماعات وجهات، وبرلمان لتبادُل الخُطَب وممارسة “التمثيلية”، وبضع منظمات تتقاسم في ما بينها المِنَح والهبات المقدمة من طرف الدولة أو من قِبَل أطراف أخرى. وليست الحداثةُ الاجتماعية جلسةَ شواء بمعية الزوجة والأبناء يوم الأحد، مع الحرص على ارتداء سروال جينز يكشف ثُلُثَ المؤخرة والحرص أكثر ، بتلك الحركة المُغَوْلَمَة المعهودة، على رفعه عند النزول من السيارة.
فكل هذا قد يحدث ـ مع الأسف الشديد ـ وفي داخلك بعير. والبعيرُ هنا ليس حيواناً من فصيلة الثدييات، يمشي على أربع، ويأكل العشب، وله ذاكرةٌ انتقاميةٌ تُروى حولها الحكايات. وإنما البعير موروثٌ يسكُنُك ويمنع كل ما حولك، من بنايات وطرق وسيارات وقطارات وموانئ وبرلمان و…، من أن يكون له طعمُ الحداثة وطابعُها، وروحُها وسِمْتُها.
من حيث التأريخ، يبدأ العصر الحديث عامة بسقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين سنة 1453 على عهد السلطان العثماني الملقب ب”محمد الفاتح”. لكن الحداثة الفكرية، والسياسية، والحقوقية لم تبدأ إلا في القرن السابع عشر مع ديكارت وتوماس هوبز وباروخ سبينوزا، ولم تترسخ إلا في القرن الثامن عشر مع فلاسفة الأنوار، وفي طليعتهم كانط ومندلسون واللاحقون من فلاسفة وأعلام المرحلة الثانية من التنوير في العاصمة الفرنسية باريس. ومَبْنى ذلك كله على تلك اللبنة الديكارتية التي لا تتعدى خمس كلمات: “أنا أفكر إذن أنا موجود”.
فقد كان ديكارت أول مَنْ حطَّم تلك الفكرة الظلامية التي كانت تقول بالتفاوت الطبيعي بين البشر على صعيد القدرات العقلية، وأثبت أن العقل موزع بالقسطاس المستقيم بين جميع العاقلين. ومع الكوجيتو الديكارتي سقطت خرافة تفوق الرجل على المرأة، وتفوق الأبيض على الأسود، وتفوق السيد على العبد والنبيل على القِن، وصار كل واحد من النوع البشري ـ بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو موقعه الطبقي ـ ذاتاً مساوية تماماً لباقي الذوات.
نعم، مفهوم الذات هو حجر الزاوية في الحداثة وفي كل مشروع يرمي إلى بناء مجتمع حداثي. وللذات ـ بالطبع ـ بعدُها الأخلاقي الذي يبلغ درجة القداسة مع إميل دوركايم حين يعلن أن “الشخص الإنساني هو الشيء المقدس بامتياز”. ومعنى أن تقدس الشخص الإنساني هو أن تحترمه كذات مفكرة، أي ألاَّ تفرض عليه كيف يفكر. وهنا بالضبط يخرج البعير ليهشم ما يُرَادُ له أن يكون “واجهةً حداثية” أو “قشرة حداثة”، فيهشم واجهات الزجاج اللامعة، ويدوس الطرق السيارة الرحبة، ويتخطى كل المؤسسات، ويفرض علينا جميعا كيف نفكر، وفي أي حدود نفكر، وما الذي يجوز لنا التفكير فيه وما لا يجوز لنا أن نُعْمِلَ فيه عقولنا. يخرج البعير على هيئة “شيخ” أو “فقيه” أو “زعيم” ليقف أمام المساواة الكاملة بين النساء والرجال، ويرغي ويُزبد، ليصون ما يسميه “مبدأ القوامة”، وليعلن أن سفر المرأة دون مَحْرَم “حَرَام”، وليُدافع عن حق الزوج في تعنيف زوجته، وحق الأب في تعنيف ابنته، وحق الفقيه في تعنيفنا جميعا، أو حتى في تكفيرنا ورمينا بالزندقة والأمر بتقطيع أيدينا وأرجلنا من خلاف.
وأمام خرجة البعير يخرج الخائفون من صولة البعير. فمنهم مَنْ يخافُ على ما في يده من السلطة، ومنهم خائفٌ على ما في حساباته من أموال، ومنهم مَنْ يرتَجفُ هَلَعاً ورَوْعاً من أن يفقد محلبته النقابية أو دكانه السياسي، وقس على ذلك. وكل هؤلاء وأولئك يدعون إلى مهادنة البعير ومسالمته حتى لا تستبد به الصَّوْلَة فيحطم كل شيء. والنتيجة النهائية هي انتصار البعير! وقد رأينا قبل أشهر كيف خَرَج موقعٌ محسوب على أحد التيارات الظلامية ليصف دعاة الحداثة ـ بمناسبة النقاش حول إصلاح مدونة الأسرة ـ بأنهم “أقلية مجهرية”منبوذة. وهنا السؤال: هل رهان المجتمع الديموقراطي الحداثي مشروع يقوده رئيس الدولة، أي الملك، أم هو مشروع “أقلية مجهرية”؟
ربما كان كَتَبَةُ الموقع الظلامي المشار إليه على صواب. بل الأقربُ إلى الصواب أنهم على صواب. وإلا بماذا نفسر اختفاء عبارة “المشروع الديموقراطي الحداثي” تماماً من ساحة التداول الإعلامي والسياسي مقابل الهجوم الكاسح لثقافة البعير؟
ليست المساواة شعاراً يُرْفَع ولا هي طُبُولٌ تُقْرَع. وما لم يُعتَرَف للمرأة المغربية بوجودها كذات مستقلة، أي ككيان أنطولوجي قائم بذاته، أي ما لم تُرْفَع عنها كل أشكال الوصاية والميز، فسيظل البعير صاحب الكلمة الأولى والأخيرة. وما دُمنا في مجتمع يميز بين أفراده في الحقوق على أساس الجنس (ولا أقول على أساس “النوع الاجتماعي” لأن مفهوم “النوع الاجتماعي” نفسه مفهوم معاصر) فلا يحق لنا أن نتبجح بأننا نخوض تجربة بناء مجتمع حداثي.
ولحظة تعديل مدونة الأسرة هي لحظة حاسمة في هذا الباب: إما الحداثة وإما البعير! والحسم بيد من يملك سلطة الحسم، أي أنه بيد الدولة، أو لنقل إنه بيد رئيسها، أي أنه بيد الملك تحديداً. وإما أن يكسب المغرب اليوم معركة كرامة المرأة المغربية، وإنسانيتها، ويخطو خطوة إضافية على درب الحداثة الفعلية، أو أن نختار الاستمرار في تلك “الحداثة الزجاجية” التي يمكن للبعير أن يهشمها في أي لحظة ما دام يعتبرها اختيار “أقلية مجهرية”!