حُكمُ الكآبة والفزع

احتلت المنطقة الناطقة رسمياً بالعربية، والتي ظلت تسمى ب”العالم العربي”، مراتب جد متأخرة على العموم ضمن التصنيف العالمي للسعادة برسم سنة 2023.

والواقع أن المرء لا يحتاج إلى أي مؤشر، ولا إلى أي تصنيف، لكي يعرف أن هذه المنطقة، الممتدة من المغرب إلى اليمن، تعيش عليها أكثر شعوب الأرض تعاسةً وشقاءً. ذلك أنه يكفي أن تقف على أي رصيف، في أي شارع من شوارع المغرب، أو تجلس على شرفة أي مقهى من مقاهي “أجمل بلد في العالم”، وأن تنظُر إلى وجوه الذين يمرون أمامك. وستكتشف أن الجميع مُتَجَهِّمٌ ومُكَشِّر، وأن الناس يكاد يدهس بعضهم بعضاً على الأرصفة لأن الجميع شارد. وحتى الذين يركبون سيارات بأثمنة خيالية فوجوههم لا تُشَكِّلُ الاستثناء في بلاد “الاستثناء المغربي”.

وعلى الطرف الآخر من هذه الرقعة الجغرافية لن تحتاج أي شيء من هذا بالتأكيد، ويكفي أن تفتح أي قناة إخبارية، لكي ترى أحوال الناس في بلاد سيف بن ذي يزن. ف”اليمن السعيد” يغرق في الفوضى والحرب الأهلية، وشنَّ عليه أشقاؤه منذ تسع سنوات حرباً أطلقوا عليها في بدايتها اسم “عاصفة الحزم”، وهو يقع اليوم تحت نيران القوات الأمريكية المرابطة في الخليج، ولا يجد أهلُه سبيلاً إلى المقاومة إلا بواسطة تلك النبتة السحرية التي تُسمى القات، مثلما لا يجد أغلب المغاربة سبيلاً للصمود إلا بواسطة نبتة أخرى تُدْعَى “القنب الهندي” ومشتقاتها.

وبين “اليمن السعيد” و”أجمل بلد في العالم”، أو بين بلاد القات وأرض القنب الهندي، تمتدُّ أقطار وأمصار تُوَحِّدُها اللغة رسمياً، ويجمعُها، فعلياً وواقعياً، أن الجميع فيها شقي، وكئيبٌ، ومُكَشِّرٌ، ومُكْفَهِرُّ، ومُتَجَهِّمٌ، من أبسط مواطنيها الذين يركضون ليلهم ونهارهم خلف لقمة العيش إلى حُكامها الخالدين فوق الكراسي. وعلى عكس رؤساء وملوك الغرب، ورؤساء حكوماته ووزرائه، الذين تطفح وجوههم بالبشاشة ويوزعون الابتسامات، فأنت لا ترى “الحاكِمَ العربي” إلا وهو يرسلُ نحو الجميع نظرة شزراء وكأنه هُوَ مَنْ يجود على مخلوقات الأرض بالهواء. ولا تكاد تراه مبتسماً إلا في حضرة رئيس أمريكي جاء لأخذ “الجزية”، أو وهو يستقبل ممثلة شقراء جاءت من “بلاد الكفار” لكي تكشف نهديها ل”المؤمنين” مقابل ما تيسر من الملايين.

والسبب ليس مما يصعب إدراكُه أو يستعصي اكتشافُه. فالجميع خائفٌ، قَلِقٌ، مُتَوَجِّسٌ، ولا أحد يشعُرُ بالأمان. لا المُواطِنُ آمِنٌ مطمئن على اللقمة التي يسُدُّ بها رَمَقَه، ولا الحاكم يضمن استمراره على عرشه إلى الغد، ولا أحد من الذين هُم بين هذا وذاك يَأْمَنُ على ما بين يديه. فحُكام الغرب “الكافر” مبتسمون على الدوام لأنهم يعرفون أنهم هناك بتفويض صريح، ومحدود في الزمن، من شعوبهم عبر صناديق الاقتراع. وحين تنتهي مدة انتدابهم يغادرون أيضا مبتسمين ـ كما جاؤوا ـ ويذهبون للتفرغ لأعمالهم وهواياتهم، أو ليكتبوا مذكراتهم، أو للقيام بأعمال خيرية وتطوعية يفيدون بها شعوبهم أو حتى أنهم يفيدون الشعوب الأخرى بما فيها شعوبنا “المُؤْمِنَة”.

أما “الحاكم العربي” فهو خالدٌ مُخَلَّدٌ فوق كرسيه أو يريد أن يكون كذلك. وهو قد وصل ـ في أغلب الحالات ـ إلى الحكم بانقلاب عسكري صريح وفصيح، أو بانقلاب يتخذ شكلياً اسم “ثورة”، أو بمؤامرة تتخذ زيفاً وبُهتاناً شكل “انتخابات”، أو ما شاكل ذلك من أساليب “الحُكم العربي”. ولذلك فهو يظل على الدوام خائفاً من فقدان الكرسي بنفس الطريقة، فيعْمَدُ إلى الترويع والتجويع والتضبيع عساه يضمن البقاء. وهو يحتاج على الدوام إلى التجهُّم والتكشير في وجه شعبه حتى تقترن صورتُه بالخوف الذي تُضْفَى عليه كذباً صفة “الهيبة”، وحتى يرتبط اسمُه بالرهبة التي يُطلَقُ عليها زوراً اسمُ “الوقار”، وحتى يصير ظِلُّهُ رمزاً للرعب الذي يُذَكِّرُ الجميع بالسيف والمشنقة والمنشار.

 وبين سحر “الهيبة” المزعومة والمنشار المعلوم لا بأس من زرع الخوف والكآبة في نفوس الشعب منذ الصغر. وفي سبيل ذلك تُسَخَّرُ ترسانة كاملة تبدأ بحكايات “الغُول” التي تُرْوى للصغار قبل النوم وتنتهي ب”الثعبان الأقرع” الذي سيلتهم خصيتيك في القبر. ولا أعرف كيف يمكن أن يكون المرء سعيداً في بلدان يبدأ فيها حياته بأحلامٍ يطارده فيها “غُول” ويختمُها بثعبان يعشق صناعة “الأومليط” ب”البيض البشري”!

أضف تعليق