لماذا يريدونك رديئاً؟

عندما تجلس في المقهى، ويأتيك بقهوتك نادلٌ أنيق، مهذب ومؤدب، ويعاملك باحترام، فستشعر أنك إنسان محترم. وبنسبة كبيرة ستشعر بوقع الاحترام في نفسك. وستعامل غيرك أيضا باحترام. وحتى إذا ما حدث أن خرجت عن ذلك فستجد نفسك محاطاً بكثير من المحترمين الذين سيرغمونك ـ بطريقة محترمة ـ على احترام نفسك واحترام غيرك.

وحين تصعد على متن الحافلة، وتجد في انتظارك مقعدا يحترم آدميتك، أو تجد على الأقل مكانا للوقوف لا يلتصق فيه قضيبُ أحدهم بمؤخرتك، فستشعر أيضا أنك إنسانٌ محترم، وأن لك مساحة حميمية يجب على الجميع احترامُها.

أما حين تدخل المقهى، ويأتيك بقهوتك نادلٌ كان حرياً به أن يكون مشرفاً على إسطبل، فستشعر في قرارة نفسك بأنك دابة، أو بأنك ـ في أحسن الأحوال ـ أنت والدابة سيان. وحين تركب الحافلة وتجد قضيب أحدهم يتسلل إلى مؤخرتك كما يتسلل ثعبانٌ إلى جُحر ليس له، فستشعر أنك في بلد لا تُحتَرَمُ فيه مؤخرتُك فأحرى أن تُحتَرَمَ فيه آدميتُك.

ويمكنك أن تقيس ما شئت على مثال المقهى وعلى شاكلة الحافلة. فالهدف هنا ليس تعداد الأمثلة بقدر ما هو لفتُ الانتباه إلى أن ثمة مَنْ يريد ـ بل ويُصر! ـ على جعلك تعيش الرداءة سواء تعلق الأمر بالقهوة التي تدخل فَمَكَ أو بالقضيب الذي يغزو سوأتَكَ. والغايةُ هي ألاَّ تشعُرَ أبداً بأنك محترم، سواء بالفعل أو بالقوة، وأن تنعدم لديك معايير الجودة في أبسط شؤون حياتك اليومية من قبيل المقهى والحافلة. ذلك أن التطبيع مع الرداءة في الأدنى ينجُمُ عنه، سواء كان ذلك بطريقة واعية أو لاواعية، التطبيعُ معها في الأعلى. بمعنى آخر، فإنك إذ تُطَبِّعُ مع الرداءة في المقهى والحافلة ستُطَبِّعُ معها أيضا في البرلمان، والحكومة، وقبلهما في المقاطعة، والبلدية، والكوميسارية، والمحكمة، والجماعة، والجهة، والمدرسة، والبنك، وقس على ذلك.

وأنت تعيش الرداءة يومياً، لن تكون لديك أبداً معاييرُ جماليةٌ رفيعة. ستسمع “الموسيقى” الرديئة التي لا فرق بينها وبين الضجيج، وستسمع “الغناء” الرديء الذي لا شيء يفصله عن النهيق، وسيفسُد في آخر المطاف ذوقُك في عمومه. وبالنتيجة سينحطُّ تفكيرُك، ويتدنى سلوكُك إلى الحضيض، ولن تحترم غيرك ولن تُطالب أحداً باحترامك. ستركب سيارة الأجرة وتطلق النهيق من هاتفك الذكي بكل بلادة. أو أنك ستخرج هاتفك الذكي وستشرع في محادثة أحدهم بكل غباء وتُرغم باقي الركاب على سماع قصصك البلهاء التي لا تهم أحداً سواك.

وأنت ترى مؤخرتك تُنْتَهَكُ يومياً بقضبان الغير في حافلة مزدحمة، ولا تتجاسَرُ على التعبير عن غيرتك عليها، لأنك تعلم أن الأمر قد يتطور إلى مشاجرة، وقد ينتهي بك المطافُ في سجن لن يكون أكثر رحمةً بمؤخرتك من الحافلة، فإنك لن تجرؤ بعد ذلك على الغيرة على أي شيء آخر. لن تغار على الشارع الذي تمشي فيه، ولن تغار على الحي الذي تسكنُه، ولن تغارَ على مدينتك، ولا على بلدك بأكمله. إن الرداءة تقتل فيك آدميتك، وغيرتك، وإحساسك بأنك حقيقٌ بالاحترام. الرداءة تجعلك، بوعي منك أو بدونه، تشعر بأنك لستَ معنياً بشيء طالما أنك لا تستطيع حتى أن تضمن لمؤخرتك مسافة الأمان.

وعلى الوجه الآخر من العُملة فالرداءة تجعلُ كل جميلٍ غريباً وتُحَوِّلُ كُلَّ جَيِّدٍ إلى نَشَاز. فاللغة الرصينة، العميقة، الثرية، تصبح مجرد ترف زائد طالما أن “الرسالة تصل”. والحال أن وصول الرسالة لا يحتاج اللغة أصلا. فالرسائل تصل حتى عبر قَوْقَأَة الدجاج. والنغمة الجميلة تُصبِحُ موسومةً ب”القَدَامة” وبأنها “تجلُبُ النُّعاس” بدعوى أن الغاية من الموسيقى هي الرقص. والواقع أن هناك فرقاً كبيراً، وَبَوْناً شاسعاً، بين الرقص كتعبير جسدي راقٍ وبين الهُيَاج والتَّرْفِيس الذي لا يستلزم موسيقى من الاصل، ولا يقتضي حتى وجود كائن آدمي، وإنما يمكن أن يقوم به أي حمار مَنْعُور، أي أصابته “النعرة” (وهي بالمناسبة كلمة عربية فصيحة).

الرداءة في آخر المحصلة تقتل الإنسان، والمواطن، وتصنع الدابَّة. ولذلك يريدونك رديئاً!

أضف تعليق