هل الملكُ فوقَ النَّقد؟

يعتبر كثيرٌ من المتكلمين في الشأن السياسي المغربي أن الملك يعلو على النقد، وأن المغاربة لا يمكنهم بأي شكل من الأشكال انتقاد الأداء السياسي للمؤسسة الملكية، وأن كل محاولة من هذا القبيل تلقي بصاحبها في غيابات السجون. بل وتذهب أكثر الآراء تطرفا في هذا الاتجاه إلى أن جميع المؤسسات الدستورية المغربية صورية، ولا أثر لها في الواقع السياسي، وأن الوحيد الذي يحكم البلاد هو الملك. وهو يحكمها على طريقة القرون الوسطى مع تغليف حكمه القروسطوي هذا بقشرة مؤسساتية تُظهر حداثة وهمية لتسويغ الاستبداد.

هذا الطرح يحرك، في الواقع، كثيرا من الانفعالات في نفوس المتذمرين والمستائين من الوضع الاجتماعي في البلاد، والذي ما يزال ـ مع الأسف الشديد ـ مطبوعاً بالهشاشة، والبطالة، والبؤس، والفقر المدقع، والتخلف الكبير في قطاعات التعليم والصحة، والفساد الإداري، وكثير من مظاهر وتجليات الشطط والتعسف والظلم. ومن الطبيعي، في وضع كهذا، أن تتفاعل نفوس المقهورين والمظلومين مع مثل هذا الطرح، وأن يظهر القائلون به بمظهر “المناضلين” و”الزعماء” أو حتى بمظهر “المُخَلِّصِينَ المُنقذين”.

لكنْ، ماذا لو تركنا الانفعال والعاطفة جانباً وطرحنا السؤال أمام عقولنا: هل ملكُ المغرب، بالفعل، فوق النقد؟

يقتضي الجواب العودة، أولاً، إلى نص الدستور لنرى ما إذا كان فيه ما يمنع المغاربة من انتقاد الملك. وهنا يذهب أصحابُ الطرح المذكور أعلاه مباشرة إلى الفصل السادس والأربعين الذي ينص على أن “شخص الملك لا تنتهك حرمتُه، وللملك واجب التوقير والاحترام”. ولعل أول ما يقفز إلى الأعين عند قراءة هذا الفصل هو أنه يتحدث عن شخص الملك لا عن الأداء السياسي للمؤسسة الملكية. وشتان بين هذا وتلك. وحتى في ما يتعلق بالملك فالفصل المعني لا يمنع بتاتا انتقاده وإنما ينص على وجوب احترامه كشخص. بمعنى آخر، فإن من الممكن تماما توجيه الانتقادات للفعل السياسي للملك بلغة تحافظ على قواعد الاحترام والتوقير الواجب لشخصه.

والحال أن الفعل السياسي للملك لا يتم من خلال المؤسسة الملكية بشكل مباشر وإنما عبر الجهاز التنفيذي، أي عبر الحكومة، حيث يترأس الملك ـ طبقا للفصل الثامن والأربعين من الدستورـ المجلس الوزاري. وهو المجلس الذي يقرر التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة، ويتداول في مشاريع القوانين التنظيمية، والتوجهات العامة لمشروع قانون المالية… وهذه كلها تتحول إلى مشاريع تُعرض على البرلمان، وتتم مناقشتها بشكل علني، وعمومي، وتبدي بخصوصها المعارضة مواقفها وتصوراتها، وتدخل عليها تعديلاتها، ويناقشها الرأي العام والصحافة والمواطنون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتنال نصيبها من النقد بِبَنَّائه وهَدَّامِه.

وحين أنتقد أي قرار منبثق عن المجلس الوزاري فإني عملياً أنتقد قرارات الملك باعتباره رئيس المجلس. وهو ما يمكنني أن أفعله بكامل الحرية، بل هو ما فعلتُه على الدوام منذ أن اكتشفت الطريق إلى العمل السياسي وإلى التعبير الإعلامي قبل ثمانية وثلاثين عاما، أي منذ عهد الملك الحسن الثاني، دون أن يحاسبني أو يحاكمني أو يمنعني أحد. بل ـ وهذه هي أم المصائب! ـ فقد كنت أنتقد قرارات الملك ولا أستطيع انتقاد قرارات الأمين العام للحزب “التقدمي” الذي كنت أنتمي إليه. وحين تجرأت على ذلك كان نصيبي الفصل من عملي كصحافي بجريدة الحزب، و”الفصل من التنظيم والتجريد من المسؤوليات الحزبية” بالتعبير الحرفي لواحد من قياديي الحزب آنذاك، كان هو الذي تكفل سامحه الله بتبليغي ب”القرار” المتخذ في حقي تَزَلُّفاً ل”قداسة الزعيم”.

أعرف أن ما أقوله هنا لا يرضي كثيرا من المنتمين لأحزاب “اليسار”، أو لبقايا “اليسار” على سبيل التدقيق. ولكنه الواقع مع الأسف الشديد. وأعرف أن للموضوع جوانب أخرى، كثيرة، لم أتطرق إليها هنا، وما كان من الممكن أن أتطرق إليها. غير أنني سأعود إليها في مقالات قادمة تفادياً للإطالة لأننا في زمن لم يعد المواطن فيه يقرأ أكثر من عشرة أسطر. فالهدف في هذا المقال أن أحاول الإجابة عن سؤال واحد فقط: هل الملك فوق النقد؟ وجوابي هو: كَلاَّ. الملك يُنتقَدُ على مدار اليوم والساعة. والأداء السياسي للمؤسسة الملكية يُناقش ويمر عبر البرلمان وتخوض فيه الصحافة. أما الاحترام الواجب لشخص الملك فهو، في منظومة الأخلاق المعاصرة، واجبٌ مبدئياً لأي شخص إنساني. بل إن الشخص الإنساني عند الفيلسوف الفرنسي المعاصر، إميل دوركايم، ليس محترما فقط وإنما هو “الشيء المقدس بامتياز” سواء كان مَلِكاً أو عاطلاً. وإني لأتطلَّع إلى أن يناقَشَ مقالي هذا باحترام وألا أجد نفسي ـ كالعادة في مثل هذه المواقف ـ أمام سيل من التعاليق التي تسبُّ أصلي وفصلي. فأنا، بالطبع، لستُ ملكاً ولكنني ـ مع ذلك ـ شخص إنساني، ولي واجب الاحترام والتوقير كما هو لأي شخص إنساني آخر. وحين نتمثل هذا الأمر جيدا سيكون طبيعيا أن نحترم بعضنا وأن نحترم الملك باعتباره شخصا إنسانيا أيضا.

أضف تعليق