مَرَضُ السَّلَفية

مات ثلاثة من بين أربعة من الخلفاء الراشدين مقتولين. وأول هؤلاء الخلفاء الراشدين، والوحيد الذي لم يمت مقتولا، والذي هو أبو بكر، عرف عهده ما سُمِّيَ ب”حروب الردة”، حيث ارتدت شبه الجزيرة العربية بشكل شبه كامل عن الإسلام، وصار الدين الجديد محصوراً في المثلث المُكوَّن من مكة والمدينة المنورة والطائف. وبعد انتهاء هذه الحروب قرر أبو بكر منع جميع القبائل التي كانت قد ارتدت، ثم أعيدت إلى الإسلام بحد السيف، من أن تقاتل إلى جانب المسلمين في الحروب الموالية. لكنَّ عمر بن الخطاب ألغى في خلافته قرار أبي بكر. وسمح للمرتدين السابقين بالانضمام إلى جيش المسلمين، وبنى لهم معسكرا في مدينة الكوفة، ومن تمَّ انطلق توسع الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر وما تلاه.

وفي زمن آخر الخلفاء الراشدين، علي بن أبي طالب، قامت الحرب الأهلية بين المسلمين أنفسهم، وصار من الصحابة من انضم إلى علي، ومن اصطف إلى جانب معاوية بن أبي سفيان، ومن خرج عليهما معاً. وحاربت الطوائف الثلاث بعضها بعضاً. وفي هذه الحرب قتل الصحابة بعضهم، ونكَّل بعضُهم ببعض دون رحمة أو شفقة، وسال بين الفرق الثلاث دمٌ كثير. وانتهت الحرب باستيلاء معاوية بن أبي سفيان على الحكم وإقامة الدولة الأموية.

أما في بداية العهد الأموي فقد انقسمت بلاد المسلمين إلى ثلاث دول: دولة الأمويين في دمشق، ودولة عبد الله بن الزبير في الحجاز وجزء من العراق، ودولة الخوارج في كرمان وفارس وأجزاء أخرى. وانتهى الصراع بهزيمة ابن الزبير على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي ضرب الكعبة بالمجانيق، وهدَّم جزء منها وأحرقها، ثم قتل ابن الزبير داخل الحرم، وعلق جثته قرب الكعبة حتى تعفنت وفاحت رائحتُها بعد أن قطع رأسه وأرسلها إلى عبد الملك بن مروان في الشام. وبعد إحكام سيطرته على مكة دخل جيش الحجاج المدينة المنورة فأباحها لجنوده كي يقتلوا وينتهكوا الأعراض دون رادع أو وازع لمدة ثلاثة أيام. ولا يمكن أن نقف في الحيز المتاح لنا هنا ـ ضمن مقال محدود ـ على كل الفظاعات التي ارتكبها “السَّلَف” في حق بعضهم. وهذا، بالطبع، دون أن نتحدث عما فعلوه بغير المسلمين.

بعد كل هذا التاريخ الزاخر بالدم، الطافح بالفظاعات، يأتي اليوم من يسمي هذا السلف ب”السلف الصالح” ويريد أن يفرض علينا العيش وفق سيرة وهمية، مزعومة ومخترعة، ولا أساس لها من الصحة، لهؤلاء الذين غرقت أياديهم في الدماء وارتكبت ما يقع اليوم، وفق القانون الإنساني الدولي، ضمن خانة “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية”. ولا أعرف شخصيا ما وجهُ الصلاح في ما فعله هذا “السلف” ابتداء من اليوم الذي مات فيه النبي. فحتى قبل دفنه اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ليتقاسموا السلطة، وتدافعوا وتبادلوا الكلام الفاحش، وداس بعضهم على بعض بالأقدام. وظل عمر بن الخطاب يردد بعد ذلك اليوم أن “بيعة أبي بكر كانت فلتة”، أي أنها كانت مجرد لحظة سانحة استغلها هو والذين كانوا معه لفرض الأمر الواقع على بقية المسلمين. وما حدث في سقيفة بني ساعدة كان، بالطبع، أحد أسباب الاقتتال الداخلي الذي حصل لاحقاً بين المسلمين في عهد علي وما بعده.

وباسم هذا “السلف الصالح” المزعوم تشكلت لدينا اليوم جماعات من الملتحين تسمي نفسها ب”السلفية”. وهي في الواقع جماعات من الجَهَلَة، المغيبين، يقودها “دُهَاة” ينتحلون صفة “الدعاة”، يعرفون كيف يستبلدون قطيعاً من المرضى النفسانيين والعقليين الذين يعيشون، ذهنياً ونفسياً، خارج الزمن. وهم يخرجون علينا اليوم ليمارسوا الترهيب والتعزير على المجتمع، ويصدروا فتاوى التكفير، وينشروا أكثر الأفكار ظلامية في صفوف الشباب المغربي، حتى أننا صرنا اليوم أمام طلبة جامعيين يجادلون في كروية الأرض ويعتبرون نتائج العلوم المختلفة “مؤامرة ضد الإسلام”. وما هذا إلا غيض من فيض!

ليست “السلفية” تيارا سياسياً، ولا هي جماعة مذهبية، بقدر ما هي متلازمةٌ مَرَضية أهم سماتها إنكار الواقع (Scotomisation)، والانسحاب من العصر نفسيا، وعقليا، وفكريا، وثقافيا، مقابل العيش وهماً في زمن “السلف الصالح” المزعوم، أي ذلك السلف الذي ضرب الكعبة بالمجانيق، وارتكب القتل في الحرم المكي، واقترف جرائم الاغتصاب داخل مدينة الرسول. والخطر الأكبر القادم هو أن يستشري المرض ويبلغ حدَّ الوباء فنجد أنفسنا يوماً ما أمام مَنْ يرتكب في مدننا ويفعل بنسائنا ما ارتكبه وفعله “السلف الصالح” بمدينة الرسول ونسائها.

هل نستفيق وننتبه إلى الخطر؟ أم نترك الحبل على الغارب إلى أن تمضي فينا يوماً ما سُنَّةُ الحَجَّاج؟ لا أحد يملك جواباً. وكل ما يحدث اليوم هو أننا صرنا أمام غلمان يتجرأ كثيرٌ منهم على الفتوى وأمام “شيوخ” يَتَغَولَمُ بعضهم دون حياء. فكأننا نعيش اليوم ذلك الزمن الذي يصدُقُ فيه قولُ القائل: “شَيْئانِ أَقْبَحُ مِنْ يَخْ: شيخٌ يَتَصَابى وَصَبِيٌ يَتَمَشْيَخ”.

أضف تعليق