يبدو كثيرٌ من المغاربة في الآونة الأخيرة مبتهجين باعتقال بعض البرلمانيين، والوزراء السابقين، ومسيري بعض الأندية الرياضية، وإقالة بعض رؤساء الجماعات المحلية، في إطار ما يسمى “محاربة الفساد”. وفي غمرة هذا الابتهاج ـ أو ربما بسببه ـ يبدو أن لا أحد انتبه إلى معطى في منتهى الخطورة رغم أنه يقفز إلى الأعين.
ففي لائحة المعتقلين، أو الذين تم إعفاؤهم أو تمت إقالتهم، يوجد الوزير والبرلماني ورئيس المجلس المحلي ورئيس الفريق الكروي. ومعنى هذا أن الفساد يخترق السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والمجالس المنتخبة، والأندية والجامعات الرياضية أيضا. وعلاوة على ذلك فليس للفساد هنا مظهر واحد، وإنما يلتقي فيه تبديد ونهب المال العام، والرشوة، وتجارة المخدرات، واللائحة ليست حصرية. وهذا معناه أولاً أننا أمام شبكة معقدة ـ بل في غاية التعقيد ـ من المصالح. ومعناه ثانياً أن الذين تم اعتقالهم أو إعفاؤهم ليسوا الوحيدين الذين أفسدوا البلاد وأهلكوا بفسادهم الحرث والنسل، وأتوا على الضرع والزرع. فحجم الفساد في الحكومات المتوالية لا يتوقف بالتأكيد عند وزير واحد. وسرطان الفساد داخل المؤسسة التشريعية لا يقتصر على أربعة وعشرين برلمانياً. وأخطبوط الفساد في الحقل الرياضي لا يتوقف عند مسؤولين اثنين.
نعم، من المهم إظهار الحزم، وإعطاء الإشارات على وجود إرادة سياسية في محاربة الفساد، بما قد يخيف المفسدين ويبشر الصالحين في أرض “الأولياء”. لكن الدولة المغربية لا يمكنها أن تتكلم “لغة الإشارة” إلى الأبد. فالفساد قد تحول إلى صناعة متكاملة ومتداخلة، إذ الوزيرُ الفاسد يدفع في اتجاه القيام بإجراءات حكومية تحمي المفسدين وتعمق حجم الفساد. والبرلماني الفاسد يصوت لفائدة تشريعات تخدم شبكات الفساد. والمسير الرياضي الفاسد يتاجر في استحقاقات اللاعبين، والأطر التقنية، عبر تهميش وإقصاء الكفاءات وإسناد المهام المختلفة ـ من الموقع على رقعة الملعب إلى المهام الإدارية مروراً بدكة الاحتياط ـ لذوي القربى، وأهل الولاءات المختلفة، والمدفوعين من طرف هذا أو ذاك. وقس على ذلك.
إن المنتخب الفاسد، سواء كان برلمانيا أو منتخباً محلياً، يفسد ـ كأول ما يفسده ـ الاستحقاقات الانتخابية نفسَها. والإفساد يبدأ من حصوله على التزكية من طرف الحزب الذي يترشح باسمه. فمقابل كل فاسد تتم تزكيته هناك مناضل كفؤ يتم إقصاؤه، وهناك عشرات أو ربما مئات من المواطنات والمواطنين ينفرون من الانخراط في الأحزاب السياسية، وهناك ملايين من المغاربة يعزفون عن المشاركة في الانتخابات وفي الحياة السياسية الوطنية بشكل عام. والنتيجة هي انتشار العدمية، والإحساس باللاجدوى، والكفر بالمؤسسات، وتفشي التطرف بمختلف أشكاله.
وحين يضع الفاسد مؤخرته على المقعد البرلماني، أو على مقعد العضوية أو الرئاسة في مجلس محلي أو جهوي، فهو بالتأكيد لن يستمع إلى هموم وانشغالات ومطالب المواطنين. بل إنه سيتفرغ أولا لاسترجاع الأموال التي أنفقها دون حدود في الحملة الانتخابية، بالبحث عن الصفقات الملوثة، وانتهاك الحقوق، والعبث بالمال العام وبالفضاء العام أيضا. وحين يصل الفاسد إلى المقعد الوزاري فهو لن يهتم مطلقاً بتطوير القطاع الذي صار وصياً عليه، ولا بالعناية بالموارد البشرية، ولا باستقطاب الكفاءات الجديدة الضرورية، ولا بما شاكل ذلك. بل إنه سيعمل ليل نهار على نشر مزيد من الفساد ووضع مزيد من المفسدين في مختلف مفاصل وهياكل القطاع الذي ابتُليَ به. وبالتأكيد فإن هذا هو ما ظل يحصل منذ استرجاع الاستقلال، أي أننا أمام ثمانية وستين عاماً من الفساد. ونحن الآن نرى الحصيلة في كل مناحي حياتنا كمغاربة: وزراء فاسدون، وبرلمانيون فاسدون، وأحزاب فاسدة، ونقابات فاسدة، وأساتذة جامعيون فاسدون، و… حتى أن المغرب يكاد يصير مرجعاً كونياً في صناعة الفساد والمفسدين.
وبالطبع، ولأننا “بلد الاستثناء” الذي تتصالح فيه جميع المتناقضات، فإن مفسدينا ليسوا مثل مفسدي باقي بلدان المعمور. فهم مفسدون أتقياء، متدينون، يحرصون على أداء الصلوات، وصيام رمضان، والذهاب إلى البيت العتيق أيضا. بل ومنهم من يجود علينا ـ فوق ذلك ـ بالموعظة الحسنة. وأمام هذه الأورام الخبيثة التي لا نهاية لها فلربما صار من الأسهل اعتقال المواطنين الصالحين لأنهم لم يعودوا أقلية فقط وإنما يوشكون أن يصيروا عملة نادرة. أما الفاسدون فلن تكفيهم، بالتأكيد، كل سجون البلاد.