قبل سنوات من اليوم، كانت تجوبُ الفضاء الافتراضي صورة رئيس الوزراء البريطاني إذَّاك، ديفيد كاميرون، وهو يقف في الميترو بين المواطنين حاملاً محفظته، وبجواره يجلس مواطنٌ يقرأ جريدته غير عابئ بحضرة رئيس حكومة بريطانيا العظمى، أي بالرجل الذي يملك جميع الصلاحيات التنفيذية في المملكة المتحدة.
وبعد هذه الصورة، ظهر الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، في شريط فيديو، وهو يريد الدخول إلى مرفق عمومي ما. وفي المدخل جلست موظفة الأمن بكامل الهدوء أمام حاسوبها، وطلبت من رئيس أقوى دولة في العالم بطاقة تعريفه كأي زائر آخر. ضحك الرئيس ومرافقوه ومد يده إلى جيب سرواله وأخرج بطاقته الوطنية وسلمها إلى موظفة الأمن التي قامت بتمريرها في النظام المعلوماتي، كما تفعل مع أي زائر لذلك المرفق الذي لم أعد الآن أذكُر طبيعته على وجه التحديد.
وقبل أيام ظهر الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، وهو يتجول على قدميه وسط المواطنين. ودخل إحدى المكتبات وشرع في تفحص الكتب المعروضة، وبجواره كان عدد من المواطنين يفعلون الشيء نفسه، أي أنهم كانوا بدورهم يبحثون عن الكتب التي يريدونها، دون أن ينتبه أحد إلى أن الذي يقف بالقرب منهم هو الرئيس الأسبق للقوة العالمية الأولى. وحتى الذين انتبهوا إلى وجوده فقد اكتفى بعضهم بتحيته عن بعد بعبارة “صباح الخير”، مثله مثل أي شخص غيره.
أستطيع أن أسرد عددا كبيرا من الحالات والمشاهد المماثلة لرؤساء دول، وحكومات، في الدول العظمى لهم مواقف مماثلة. والأكيد أن هذه المشاهد مألوفة تماما بالنسبة للمواطنين هناك. فهذه المستشارة الألمانية تتبضع من سوق ممتاز وتدفع عربتها بنفسها داخل السوق، وهذا ملك بلجيكا يقف أمام المدرسة العمومية بين الآباء والأمهات منتظرا خروج أبنائه، وذاك رئيس فرنسا يعبر ممر الراجلين دون أن ينتبه إليه أحد.
أما عندنا فلا يكاد يتم تعيين مسؤول في موقع إداري ما حتى تتهافت عليه عدساتُ مَنْ أصبَحوا في هذا الزمن البئيس، البَخِيس، يحملون صفة “الصحافيين”. وكلما فتحت هاتفك تهاطلت عليك الإعلامات التي تحمل عناوين مقالات تصيبك بالغثيان، وتشعرك بالقرف العظيم، محاولةً إظهار المسؤول المعني بنفس الصورة التي تُظهر بها بعض المسلسلات التاريخية الإسلامية شخصية الخليفة عمر بن العزيز. فالمسؤول “تقي” و”نقي” و”ورع” و”صارم” و”حازم”. بل ومنهم مَنْ لم يجد حرجاً في أن يكتب عنواناً بالدارجة المغربية عن مسؤول ترابي ما يقول بأنه “ما معاهش اللعب”، بما يحمله العنوان إياه من تهديد مبطن للقارئ.
هناك، في بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا أو بلجيكا، أو غيرها من البلدان الديموقراطية، لا يحتاج المسؤولون الإداريون، ولا رؤساء الحكومات، ولا رؤساء الدول، إلى تلميع صورتهم الشخصية. ولذلك فهم لا يستأجرون “سِيرُورَات” (مع احترامي الشديد لماسحي الأحذية الشرفاء الذين يكسبون قوتهم بعمل أيديهم!) للقيام بذلك ما دامت أعمالُهم تشهد عنهم لدى الناخبين وعموم الشعب وأمام العالم أجمع. وفوق هذا فلا أحد هناك يمكنه التصرف خارج القانون. ومَنْ تجرأ على ذلك وجد نفسَه أمام مختلف آليات المُسَاءَلة والمحاسبة. ولذلك فلا تكاد تجد صحافيين مُتَكَسِّبين إلا في حالات نادرة جدا. ومَنْ ضُبِطَ منهم مُتلبِّساً بذلك فإنه يكون قد حكم على نفسه بالخراب العظيم.
هنا فقط، في بلاد “الاستثناء”، يشتغل التَّلميعيون ليل نهار، يتمسحون بأعتاب العمال والولاة، وحتى الباشوات والقواد أحياناً، ويكتبون عنهم تلك المقالات السخيفة التي تكاد تجعل الواحد منهم نِداًّ لنابليون بونابارت أو بِسْمَارك. فهذا الوالي “صارم”، وذاك العامل “حازم”، والباشا الفلاني “نزيه”، والقائد العلاني “نقي وتقي”. والحال أن مَنْ كان كذلك بالفعل لن يحتاج إلى شهادة “صحافة” تعيش أصلا من القاذورات، وسيكون في غنى عن أي تزكية من الأقلام المأجورة، وسينأى بنفسه عن ذكر اسمه أصلاً في تلك المزابل الإلكترونية التي تحمل زوراً وبهتاناً صفة جرائد. فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يُقال. وكثرة المديح دليلٌ على كثرة المثالب التي يُرَادُ به إخفاؤها والتستر عليها. بل كثيرا ما يكون إظهار “الصرامة” و”الحزم” و”النزاهة” هو أنجع الوسائل لإنعاش سوق الرشوة والفساد، إذ يكفي أن أجلس على كرسي المسؤولية، وأستعمل المزابل الإلكترونية لتروِّجَ عني صورة المسؤول “الحازم” “الصارم”، لكي يصبح إرشائي بالمبالغ الصغيرة أمراً مستحيلا، والوصولُ إليَّ كالدخول على قسطنطين الأول. وبعدها أطلق في الخفاء شبكات السماسرة لتأتي بالرشاوى السمينة.
إن النظيف ـ أيها السادة! ـ لا يحتاج الغسل. وعكس ذلك، حيثما كَثُرَ الغَسْلُ فَتَمَّ موطنُ العَفَن!