الارتفاعُ في أرْضِ الوَضَاعَة سُقُوط!

في المجال السياسي داخل البلدان التي تحكمها أنظمة فاسدة، يكون من المعتاد، ومن المفهوم أيضا، أن يتم تهميش الكفاءات. ويكون من المعتاد والمفهوم كذلك أن يجري، مقابل تهميش هؤلاء، فتحُ الطريق أمام أصحاب الولاءات، وأهل المحسوبية، والسََالكين مختلفَ دُروب ومسالك الزبونية. غير أن ما يبدو مفهوماً من الناحية العقلية، بالنظر إلى طبيعة تلك الأنظمة والمجتمعات، قد لا يكون بالضرورة مستساغاً ومهضوماً من الناحية النفسية لدى ضحايا التهميش والإقصاء. ذلك أن النفس تحكمها الانفعالات والأهواء ولا يسيطر عليها العقل. ومتى نجح العقل في هذه المهمة، أي مهمة السيطرة على النفس وأهوائها وانفعالاتها، خرج المرءُ من دائرة الاعتياد وعُدَّ في مصافِّ الحُكَماء.ومع أن هذه المقالة لا تزعم الاصطفاف في مراتب الحكمة، ولا تدعي لنفسها أي ندية مع كتابات أسيادنا الحكماء، فهي تسعى إلى جعل قارئها (الذي أفترض أنه واحد من المهمشين والمقصيين سياسياً أو اجتماعياً في أي قُطر من بلدان الفساد والاستبداد) يدرك أن ما حصل له ليس عقابا بقدر ما هو حظ عظيم من الثواب. فالذين يرتقون في مدارج المناصب، ويحظون بنعيم الامتيازات، في بلدان تحكمها أنظمة فاسدة مستبدة، هم خُدَّامُ الفساد والاستبداد أولاً، وكلابُ هؤلاء الخُدَّام وقَوَاويدُهُم ثانياً. وحين تُقصى وتُهمَّشُ من طرف هؤلاء وأولئك فهذا يعني شيئا واحدا هو أنك لستَ كلباً ولا قوَّاداً ولا خادماً من خُدام الفساد والاستبداد.أجل، إنك في وضع كهذا ستعاني كثيرا من أجل العيش. وقد تمر عليك لحظاتٌ تعز فيها اللقمة على فمك، ويهجر فيها القرش جيبكَ، وتأكل فيها نياطَ قلبك مشاعرُ الضيم والغبن والحسرة. وحتى نكون واضحين، فأنت قد تموت فقيرا، ومريضا، وقد لا يجد أهلك عند موتك حتى ما يدفعون به ثمن قبرك. وسيكون من السخافة أن نحاول تعزية أنفسنا هنا بأن خدام الفساد والاستبداد، وكلابهم وقواويدهم، لا يعيشون سعداء، أو أن ننتظر رؤيتهم في الجحيم في عالم آخر. فالمقصيون والمهمشون والمنبوذون هم ـ بجميع المقاييس ـ ضحايا للاستبداد والفساد. وهم يعيشون عرضة للفقر، والقهر، ومختلف ضروب التنكيل وأصناف المعاناة. ويجب الإقرار بأن هذا الذي يحدث لهم ليس جميلا، ولا ممتعا، ولا رائعا، ولا أي شيء مما تحاول اليوتوبيا الأدبية والفنية والفلسفية أن تصوره على سبيل العزاء. فالفقر والقهر والتهميش والغبن أمورٌ في منتهى البشاعة. وهي تشكل تدميراً لإنسانية الإنسان، وهدراً لكرامته، واحتقارا ما بعده احتقار لشرعية ولمشروعية وجوده كإنسان. ومقابل كل كلبٍ أو قوَّاد يتم تمتيعه بالمناصب غير المستحقة، والامتيازات غير المشروعة، تُداسُ ملايين الأنفس الشريفة، وتهمَّش على الأقل عشرات الكفاءات المتمكنة، وتضيع على البلدان والشعوب آلافُ الفرص الذهبية للتنمية والتقدم والانخراط الفاعل في حركة التاريخ.لكن العين بصيرة واليد قصيرة كما يقال. فالاستبداد والفساد مُدَجَّجَان بأعتى وسائل القمع والتعذيب، وبترسانات هائلة للدمار والقتل، وبمنظومات فتاكة للتسطيح والتضبيع وصناعة القُطعان. وبالرغم من كل الانفعالات التي يحدثها ذلك في نفوس الشرفاء فإن العقل يقضي بعدم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة لأن من الغباء الموتُ من أجل قُطعان هي أول مَن يرفض الحرية، ويستلذ الاستبداد، ويستطيب الفساد. ومن الحكمة ما يقضي بأن يحافظ كل امرئ شريف على نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلا. والمحافظة على النفس تبدأ من عدم تحميلها وِزْرَ ما لا يَدَ لها فيه. فأنت ـ أيها المواطن النزيه، الشريف، الكفؤ ـ لست المسؤول عن انتشار الفساد ولا عن استحكام الاستبداد. بل المسؤولون هم جميع المستبدين والفاسدين المفسدين. وهنا يستوي الحاكم والمحكوم، والراعي والقطيع، والخاصة والعامة. فالحاكم المستبد في قصره يقابله الزوج المستبد في بيته. وصانع التفاهة والرداءة يقابله القطيع الذي يستهلك هاته وتلك، والمسؤول الفاسد يقابله شعبٌ بأكمله يعيش هو الآخر الفساد الأصغر، ويقتات على فُتات وفضلات الفساد الأكبر. ولا يوجد في كل القطعان المترامية على مد البصر أمام ناظريك مَنْ يستحق أن تتلقى من أجله صفعةً واحدة، فأحرى أن تموت أوتقتل نفسكَ هماًّ وغَماًّ وكَمَداً من أجل قطيع مستعد في أي لحظة لكي يدوسك بحوافره بأمر من أي فاسد أو مستبد.إن الحكمة تقتضي الجمع بين العيش على أرض الواقع والارتفاع في سماء الذات. ومعنى ذلك، عمليا، أن تحرر نفسك من الشعور بالضيم والغم لأن هذا لن يفيد، ولن تكون له من نتيجة سوى مزيد من المعاناة لك نفسياً وجسدياً. وفي ذات الآن يمكنك الارتقاء بعقلك إلى أقصى ما يمكن في آفاق المعرفة والفن السامي والأدب الرفيع.ارتفع في نفسك. أما الارتفاع في أرض العفن فهو، في آخر المطاف، وَضَاعة!

أضف تعليق