لماذا يكتئب المغاربة؟

فنلندا، حسب التقرير الرسمي للأمم المتحدة حول السعادة، هي أسعد البلدان على وجه الأرض. فسكانها، الذين يتجاوزون بالكاد خمسة ملايين ونصف مليون نسمة، ينعمون وفق ذات التقرير بكل وسائل الرفاهية التي من شأنها أن تجعلهم سعداء. لكنَّ الفنلنديين ليسوا كذلك. والدولة نفسُها احتلت المرتبة السابعة من بين أربعة وعشرين دولة أوروبية على صعيد استهلاك الأدوية المضادة للاكتئاب.
أما المغرب، “أجمل بلد في العالم”، فهو في المرتبة المائة على مؤشر السعادة العالمي. وهذا معناه أنه أقل رفاهية مائة مرة من فنلندا. وسكانه الذين يتجاوزون اليوم، على الأرجح، الأربعين مليون نسمة، يعاني ثُلُثُهم من الاكتئاب حسب ما تداولته تقارير إعلامية. أضف إلى ذلك أن نصف المغاربة يعاني من اضطرابات نفسية مختلفة. وعليه، فنحن أمام ما يزيد عن 13 مليون مغربي(ة) مكتئب(ة) وما يناهز –على الأقل– 20 مليون مغربي(ة) مضطرب(ة).
هذا الرقم المخيف – ونحن في اليوم الأخير من شعبان – يمكن أن يُفسِّر ما يحدث طيلة شهر الصيام من مشاجرات، وجرائم قتل، وحالات تبادل للسب والشتم في الطرقات، وما إلى ذلك من مظاهر “الترمضينة” المغربية. ومع أن هذا الرقم يعني أن المجتمع المغربي “مريض” ويجوز له الإفطار شرعاً، فإن المغاربة يصرون على أداء فريضة الصيام في عمومهم حتى وإن كان ثُلُثُهم مكتئباً ونصفُهم مُضطرباً. ولن تتجرأ الجهة الرسمية المعنية بالأمر على إصدار فتوى تبيح الإفطار للمجتمع المغربي رغم أن العقل، والمصلحة، معاً يقضيان بذلك. فلو أن شخصاً كان نصفُ جسده أو ثُلُثُه مريضاً لجاز له الإفطار. أما حين يكون نصف المجتمع موزعاً بين مكتئب ومضطرب فعلى المجتمع مع ذلك أن يصوم. وأكثر من ذلك فإن هؤلاء المكتئبين المضطربين سوف يتولون فرض الرقابة، وسيمارسون التعزير، على كل من سولت له نفسُه الجهر بالإفطار في نهار رمضان.
وفي “أجمل بلد في العالم” سيُعالج اكتئاب الثُّلُث واضطرابُ النصف – كالعادة – بترك الحبل على الغارب. وسيخرج “الشيوخ” و”الوعاظ” ليقولوا لنا بأن اكتئابنا ليس مثل اكتئاب الفنلنديين. فاكتئاب هؤلاء ناتج عن “الكفر” وانعدام الطمأنينة التي يخلقها “الإيمان”. أما نحن فإننا – ولله الحمد! – مؤمنون، وسبب اكتئابنا هو التفريط في العبادات التي تقربنا من الله. وشهر رمضان المعظم هو أفضل مناسبة للتعبد والتقرب من الله والخروج من الاكتئاب وباقي أصناف الاضطراب. وبالطبع، فإن كثيرين سيصدقون هذا الكلام، وستضج المساجد بالمصلين، ويعكف الناس على أداء الصلوات مع زيادة النوافل والحرص على التراويح ليلاً وفجراً. وسينقضي شهر رمضان لنكتشف في العام المقبل أن الاكتئاب قد تراجع في فنلندا “الكافرة” وازداد تَفاقُماً في المغرب “المؤمن” ذي المائة ألف ولي. وذلك طبعا لأنهم سيعملون على توفير البنيات الاستشفائية اللازمة، وسيخصصون الميزانيات الضرورية للقيام بالأبحاث والدراسات العلمية لاستجلاء الأسباب الكامنة وراء انتشار الاكتئاب في صفوف السكان، وسيعملون على معالجة تلك الأسباب بالطرق العلمية أيضا. أما عندنا فالبنيات الاستشفائية المختصة في الصحة النفسية أقل من أن تُعدًَ على رؤوس الأصابع. وحتى الموجود منها فهو يعمل في ظروف لا تصلح إلا لمفاقمة معاناة المرضى والطواقم الطبية والتمريضية على حد سواء، وهو ما يزال يشتغل بوسائل متخلفة بسنوات ضوئية عن مسايرة التقدم التقني والعلمي.
ومع أن الأمر ينطوي على كثير من المجازفة فقد أجرؤ على القول بأن اكتئاب الفنلنديين ليس مثل اكتئاب المغاربة بالفعل. فالراجح أنهم يكتئبون ـ ربما ـ بسبب الطقس، وبسبب الرفاهية المفرطة، إذ أن التحليل النفسي كشف منذ ما يقارب قرناً أو يزيد أن التماهي بين خط الرغبة وخط الواقع يمكن اعتباره من أسباب الاكتئاب وقد يؤدي إإلى الانتحار أيضا. بتعبير أكثر بساطة فإن المرء إذا كان يجد كل ما يرغب فيه متوفرا، ولا يحتاج إلى أي مجهود للحصول على ما يريده، ولا يكافح في سبيل بلوغ غاياته، قد يصير عرضة للاكتئاب والسوداوية، أو حتى أنه قد يضع حدا لحياته.
نعم، قد يجوز أن يكون هذا سبب الاكتئاب الفنلندي بالفعل. أما الاكتئاب المغربي فهو ـ دون أدنى شك ـ ناتج عن انسداد الآفاق حيث صار على المواطن المغربي أن يعمل طيلة حياته من أجل الحصول على شقة بئيسة، وأن يقضي عمره دون أدنى فرصة للترفيه في مدن تفتقر إلى أبسط شروط التنشيط، ولا تعدو كونها عبارة عن كُتَل من الإسمنت، ويغرق كثير منها في الغبار صيفاً وفي الوحل شتاءً. وهو ناتج أيضا عن هدر الكرامة في المرافق العمومية، ومقرات العمل، ومختلف الفضاءات العامة حيث يُعَامَلُ المواطن المغربي بجرعات قاتلة من الاحتقار. وهو دون ريب اكتئابٌ ناجمٌ أيضاً عن الإحساس العميق بالحرمان من ثروات البلاد التي لا يصله منها إلا الفُتات. وحتى ذلك الفُتات فهو لم يعد يستطيع إليه سبيلا بفعل الغلاء الفاحش. ومن الأكيد أننا لن نستطيع حصر أسباب الاكتئاب المغربي حتى وإن قضينا في ذلك مثل ما قضى سيدنا نوح في صنع سفينته. ولربما كان من بين مواطنينا المعروفين بروح الدعابة رغم كل شيء مَن سيقترح علينا إقامة شراكة مع فنلندا لتبادل الاكتئاب، فنُصَدِّر ما تيسر من الاكتئاب المغربي، بكامل بؤسه وكدحه، إلى فنلندا، ونستورد ما تيسر من الاكتئاب الفنلندي، بكل رفاهيته وترفه، عسى أن يكون ذاك علاجاً لهذا ويكون هذا ترياقاً لذاك.

أضف تعليق