الغالبُ على عالم الثدييات، كما نراه في حالته الطبيعية، أن الذكر يطارد الأنثى، ويمسك بها، ثم يُخضعها للفعل الجنسي. ذلك ما نستطيع أن نراه في عالم الحيوانات الثديية التي تشارك الإنسان في محيطه اليومي من كلاب، وقطط، وأغنام، وماعز، وخيول، وغيرها. أما الأنثى فهي لا تستطيع أم تفعل نفس الشيء بالذَّكر. والسببُ هو افتقارُها للقضيب القابل للانتصاب. فالذكر – بفضل القضيب – يستطيع مباشرة الفعل الجنسي حتى وإن لم تكن الأنثى تريد ذلك. أما الأنثى فلا سبيل لها إلى فرض إرادتها الجنسية على الذكر ما لم يكن لديه انتصاب، أي ما لم يكن هو يريد الفعل الجنسي.
هذه الإمكانية المتاحة للذكر بالطبيعة، والمنعدمة لدى الأنثى بالطبيعة أيضا، هي التي أسميها هنا “سُلطة الإيلاج” (Pouvoir de pénétration). وهي أولُ مظهر طبيعي لإخضاع الأنثى من طرف الذكر. وهي التي يمكن أيضاً أن نعيد إليها، مبدئيا، جميع المظاهر الأخرى التي يتخذها إخضاعُ الأنثى عند الإنسان باعتباره، هو الآخر، واحدا من الحيوانات الثديية.
فإخضاعُ الأنثى لسلطة الإيلاج في عالم الطبيعة هو الذي مَهَّد بعد ذلك لاستعبادها من طرف الذكر بعد أن حقق الإنسان الانتقال إلى ما نسميه عادةً “حالة الثقافة” أو “حالة المجتمع”. ورغم أن الدراسات الأنثروبولوجية، من قبيل أعمال لويس مورغان، تثبت وجود بعض الاستثناءات في تاريخ الإنسان، حيث كانت بعضُ المجتمعات البشرية تعرف ما يسمى ب”تعدد الأزواج”، فإن الحالات المذكورة تبقى مجرد استثناءات وتظل نادرة ومعزولة. وفي جُلِّ مراحل التاريخ، وفي الأغلبية الساحقة من بقاع المعمور، فإن السائد ظل هو سيطرة الذكر على الأنثى، وتعدد الزوجات، وتقديس القضيب الذي تحول إلى إله يُعبَد في جميع الحضارات تقريباً كما يكشف ذلك العملُ الشيق الذي قدمه في القرن التاسع عشر المؤرخُ والأنثروبولوجي الفرنسي جاك أنطوان دولور في كتابه “عبادة القضيب لدى القدماء والمُحْدَثين”.
غير أن الانتقال إلى “حالة الثقافة” ليس عملية محدودة في الزمان بقدر ما هو سيرورة مستمرة، ومسار معقد ومتشابك، يتلازم مع تطور الوعي والذكاء الإنسانيين. وما لم تحدث تلك الحالة التي تنبأ بها الروائي بيير بول، في “كوكب القردة”، وما دامت شُعلة الحضارة بيد الإنسان ولم تنتقل إلى نوع حيواني آخر، فإن الانتقال إلى “حالة الثقافة” سيظل متواصلا. ومع استمرار هذا الانتقال فسيتخلى الإنسان أكثر فأكثر عما ورثه من حالة الطبيعة. وضمن هذا التطور بالضبط تحل فكرة “النوع الاجتماعي” محل فكرة “الجنس”، ونتحدث عن “المرأة” بدل الأنثى وعن “الرجل” عوض الذكر. وستعمل التشريعات أكثر فأكثر على تخليص المجتمع الإنساني من الرواسب الحيوانية وتعويضها بالقيم الثقافية التي ترسخ إنسانية الإنسان. ولذلك فالتشريعات الإنسانية تنحو في اتجاه الحد من ممارسة “سلطة الإيلاج” اعتباطياً عبر تجريمها واعتبارها اغتصاباً حتى داخل العلاقة الزوجية ما لم تكن مقترنة برضى المرأة. فما لم تحققه الطبيعة يحققه التشريع الوضعي. وإذا كانت الأولى تكرس تفوق الذكر فإن الثاني يضمن المساواة بين النوعين الاجتماعيين. وبالطبع، فالمساواة لا تقتصر على الرضى المتبادل داخل العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة العاقلين البالغين، وإنما هي تمتد إلى جميع الحقوق والواجبات الأخرى، ومن بينها ـ بالتأكيد ـ الحق في الشغل.
لكنَّ أحدهُم، المسمى إلياس الخريسي، لا يزال على ما يبدو في حالة الطبيعة. أو لنقُل ـ على الأقل ـ إنه ما يزال يحمل جزءً كبيراً من رواسبها. ولذلك فقد سبق له أن فعل ما يفعلُه ذُكُورُ الثدييات عادةً من ركضٍ هائج وراء الإناث. ولعل جميع المتتبعين لا يزالون يذكرون كيف حمل هذا الشخص آلة تصوير ومضى في الشوارع يركض وراء النساء والفتيات ويصوِّرُ مؤخراتهن، ثم ينشر تلك الصور ومقاطع الفيديو بفرح ساذج وكأنه أعاد اختراع العجلة. فالفرق في هذه الحالة يكمن فقط في أن آلة التصوير قد حلَّت محلَّ القضيب، أو قُل إنها قد أضحت بمثابة امتداد له. أما في الواقع فإن المدعو إلياس الخريسي كان يُشبِعُ استيهامات موروثة على الأرجح عن أحد أسلافه (أو عن أسلافه أجمعين) في مرحلة ما قبل الثقافة، أي في حالة الطبيعة. ولو أننا كنا محظوظين أكثر، وعاش بيننا اليوم مؤسس علم النفس التحليلي وصاحبُ نظرية اللاوعي الجماعي، كارل غوستاف يونغ، وانتهى إليه ما كان من أمر المدعو إلياس الخريسي، لأتحفنا بتحليل ممتع لجذور هذا السلوك في اللاوعي الجماعي الذي ينتمي إليه هذا الشخص، والذي قد تمتد أصوله إلى ما قبل الإنسان نفسه، وربما إلى ما قبل السلف الأعلى المشترك بيننا وبين القردة. وإلا بماذا نفسر حالة التَّقَافُز التي تصيب الشخص إياه كلما ذُكِرَت النساء؟
فبعد “غزوة المؤخرات” تلك خرج ذاتُ الشخص دون سابق إنذار ليؤسس مجموعة على فيسبوك يدعو من خلالها إلى عدم الزواج من النساء الموظفات. وفي هذا ما فيه من إنكار على المرأة لحقها في الشغل، ولحريتها في العمل، أي ـ في آخر التحليل ـ لحقها الإنساني في المساواة، ومن دعوة إلى إبقائها في المخدع لتكون موضوعاً ل”سُلْطَة الإيلاج” كما تحدثنا عنها أعلاه. وهي ذات النزوة اللاواعية التي جعلت المدعو إلياس الخريسي يخرج مرة أخرى، يوم ثامن مارس الجاري، بتدوينة تسيء من جديد للنساء الموظفات، ولأزواجهن، وتطعن في أعراضهن بمنتهى الوقاحة والوضاعة والصفاقة.
لقد جرت العادة على تفسير مثل هذه السلوكات بالانتماء الأيديولوجي لأصحابها، الذين يسمون طبعا ب”الإسلاميين” على اختلاف فصائلهم وتشكيلاتهم، وعلى تعدًّد أشكالهم التي يوحدها في النهاية الخروج عن العصر. لكن ما نراه في مثل هذه الحالات يجعل من الضروري الذهاب في البحث إلى ما بعد الأيديولوجيا نفسها. وذلك بالبحث في الأسباب اللاواعية التي تجعل أفرادا بعينهم ينتمون إلى هذه التيارات. وهي الأسباب التي قد تعود إلى ما قبل الثقافة، أي إلى موروثٍ حيوانيٍ ما يجعل هؤلاء لا يفكرون إلا في ما يتدلى من أسفل بطونهم، وبما يُشبع لديهم “نزوة الدِّيك”.