لا عَدالة في الموت!

في يوم 27 نونبر 2015 خرجت مجلة « اليوم السابع » بخبر يقول بأن شركة أمريكية تقوم بتجريب تقنية لإعادة الأموات إلى الحياة بواسطة الذكاء الاصطناعي. وقال المسؤول عن الشركة آنذاك بأن التقنية المذكورة تقوم على تجميد دماغ الشخص الميت، وزرع شريحة إلكترونية فيه، ثم بعد ذلك إعادة زرع الدماغ في جسد اصطناعي. وربما كانت تلك أول مرة يسمع فيها قُرَّاءُ العربية عن الموضوع.
لكنَّ هذا لم يكن جديدا في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم تكن الشركة المذكورة هي الوحيدة التي تعمل على مشاريع من هذا القبيل. وإنما كانت هناك عدة شركات، والعديد من الفرق العلمية، التي تشتغل على مشاريع في نفس المضمار، أي تجاوز الموت، وإعادة الأموات إلى الحياة. ومن بينها شركة « بيوكوارك » التي يوجد مقرُّها في فيلادلفيا، والتي خرج مديرُها، إيرا باستور، في السنة الموالية، أي 2016، ليعلن بأن شركته قد تلقت الموافقة من السلطات الأمريكية المختصة على تجريب تكنولوجياتها القادرة على إعادة الموتى إلى الحياة على البشر.
وبالطبع، فالتجارب، في المجال العلمي، لا تُجرى على البشر إلا بعد المرور من المرحلة الزجاجية والمرحلة الحيوانية، أي المرحلة الأولى التي تُجرى فيها داخل الأدوات والأنابيب المخبرية، ثم المرحلة الثانية التي يتم فيها تجريبُها على العينات الحيوانية. وبعد هذا صرح إيرا باستور بأن فريقه قد تمكن من إعادة شخصين ميتين إلى ما أسماه « مرحلة أولية من الوعي »، دون إعطاء أي تفاصيل دقيقة في هذا الباب. وبعد سنوات من هذا التاريخ خرج ليصرٍّحَ بأن هناك اعتبارات أخلاقية ما تزال تقف كحاجز أمام إعادة الأموات، فعلياً، إلى الحياة ومنها غياب العلاجات والأدوية الناجعة للعديد من الأمراض، إذ لا يُعقَلُ أن يتم إحياء شخص ميت لكي يستمر في المعاناة من مرض لم تجد له البشرية بعدُ علاجاً ناجعاً. وقال إنه سيكون على الذين فقدوا أعزاءهم أن ينتظروا ربما عقوداً أخرى حتى تكون الإنسانية قادرة بالفعل على استعادة أمواتها.
وقبل هذه الخرجات الإعلامية للشركات الأمريكية العاملة في مجال التكنولوجيات الإحيائية خرج خبير الذكاء الاصطناعي، ومهندس المعلوميات المعروف، راي كورزويل، في كتابه الشهير المعنون ب « الفَرَادةُ وشيكة » ليقول بأنه سيكون بإمكان الإنسان قريبا أن يعيش إلى أن يقرر هو الموت بإرادته. ولربما لم تكن هذه أهم فكرة جاء بها كورزويل في كتابه ذاك وإنما كانت فكرتُه الأهم، في تقديري، هي أن تطور العلوم والتكنولوجيات ليس خَطِّياً وإنما هو تطور أُسِّي، أي أن التطور الذي يحصل مثلا في خمسة وعشرين سنة تنجم عنه تطورات لاحقة قد تحصل في خمس سنوات فقط. ومما توقعه كورزويل، وهو بالمناسبة من أبرز العاملين على مشاريع تطوير الوعي الاصطناعي بعد مرحلة الذكاء الاصطناعي، أن الإنسان سيكون قادرا في زمن قريب على إعمار كواكب أخرى، وربما إعمار أنظمة شمسية أخرى، أو حتى مجرَّات أخرى. وبالتالي فإن فكرة تجاوُز الموت ستتزامن مع توسع الإنسان في الكون ولن يكون هناك مشكلُ اكتظاظ الأرض.
وبينما تحدث هذه التطورات المذهلة في العالم المتقدم، ويقتحم الإنسان عالم الموت علمياُ وتكنولوجياُ، ما يزال الإنسان في المجتمعات الغارقة في الجهل والاستبداد ينتظر من الموت أن يحقق له ما عَجَزَ عن تحقيقه في حياته. فالفقراء، والكادحون، والمُضطَهَدُون، والمقهورون، ما يزالون ينتظرون أن يأتي ملاكُ الموت ليقبض المُسْتَغِلِّين والمُستَبِدِّين، فيُساوي بين الفريقين ويحقق العدالة. ولم ينتبه أحدٌ من مُستهلكي الأوهام هؤلاء إلى أن الموت لم يحقق المساواة ولا العدل في يوم من الأيام. ويكفي أن يزور المرءُ المقابر ليرى الفرق الشاسع، والبَوْنَ الكبير، بين قبور الأغنياء وقبور الفقراء. فالأولون يُدفنون في مقابر خاصة داخل المقابر العمومية لأن لديهم الإمكانيات المالية لشراء قطع أرضية داخل المقابر، وتجتمع قبورهم في الموت مثلما كانوا مجتمعين في الحياة. أما الآخرون، أي الفقراء، فهم يُدفَنُون أينما اتفق مثلما كانوا في حياتهم يسكنون أينما اتفق وكيفما اتفق.
وما يزال شيوخُ الجهل والظلام إلى اليوم يُسَوِّقُونَ الخرافات ويَعِدُون القُطْعَان المُفَقَّرَة المُجَهَّلَة بأنها ستتساوى في عالم ما بعد الموت مع الذين يستأثرون اليوم بالثروة والسلطة. والحال أن التطور العلمي والتكنولوجي يعلن أن هؤلاء الذين ينعمون بالمال والجاه سيكون بإمكانهم قريباً أن يشتروا حياة جديدة كلما اقترب منهم الموت. وحتى إذا ما هرمت أجسادُهم فإن التكنولوجيات الإحيائية، في تضافرها مع تكنولوجيا النانو وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والوعي الاصطناعي، سيكون بإمكانها أن تصنع لهم أجسادا جديدة تماما. وهذا معناه أن الذي سيموت في المستقبل هو “المناضل” الفقير، الكادح، الذي لا يملك ما يشتري به حياة جديدة. أما المستبد الغني فهو لن يموت.
وبينما يعتبر هذا النقاش أمراً عاديا في العالم المتقدم، تخوض فيه وسائل الإعلام، ويتم تطارُحُه في الندوات والمؤتمرات العلمية، ويناقشه الفلاسفة أيضا، وتبحثه علوم الإنسان، فإن كل مَنْ يجرؤ على طرحه لدينا سيجد نفسه متهما ب «الإلحاد» و «الز ندقة». ولنا أن نتصور مصير أستاذ فلسفة في الثانوي (قياس الخير!) يفتتح مجزوءة «الوضع البشري» بوضعيةٍ مشكلة حول الموت بين الميتافيزيقا من جهة والعلم والتكنولوجيا من جهة أخرى.
حاولوا أن تتخيلوا فقط !

أضف تعليق