قَرَاقُوشُ البَيضَاء

يُفتَرَضُ، في دولة القانون والمؤسسات، أن تكون السلطة للقانون والمؤسسات. وحين يكون الأمر كذلك فإن الأشخاص يتوارَوْن تماماً، وتكادُ أسماؤهم تختفي، ولا تُذكَرُ في وسائل الإعلام إلا من باب التذكير بأن فلاناً هو الذي يرأس الإدارة الفلانية، أو أن علانا هو الذي يتولى تسيير المرفق العلاني، وذلك متى كان هذا التذكير ضرورياً للقارئ أو للمستمع أو للمُشاهد.
وهكذا، فقد يقيم المرء سنوات في باريس دون أن يعرف من يكون عمدة باريس. بل وقد يقيم في بلد بأكمله دون أن يهتم بمن يكون رئيس الحكومة أو حتى رئيس الدولة لأن أسماءهم، ببساطة، تكاد تختفي من وسائل الإعلام، خاصة في تلك الأنظمة التي يسود فيها الملوك ولا يحكمون، وحيث تعتبر مكانة الملك مكانة رمزية ليس إلا.
فأنت قد تقيم في بلجيكا دون أن تسمع يوماً عن ملكها، وقد تقيم في السويد دون أن ترى ملكها على شاشة التلفزيون الرسمي، وقد تقيم في إسبانيا دون أن يطالعك وجهُ ملكها على تطبيقات الأخبار. أما مَنْ هم دون الملك فقد تعيش وتشيخ وتموت دون أن تسمع بهم ولا بأسمائهم. لكنك بالمقابل ستسمع عن الحكومة، والوزارات، والبرلمان، والبلديات، وغيرها من المؤسسات، بسبب الأعمال التي تقوم بها والقرارات التي تتخذها أو تسهر على تنفيذها.
عكس ذلك، في الدول التي تغيب فيها المؤسسات، أو يتم تغييبُها حتى وإن وُجِدَتْ، فإن القرارات والأعمال ترتبط بأسماء الأشخاص حتى وإن لم يكونوا مُلوكاً، ولا رؤساء حكومات، ولا حتى وزراء. وما أن تفتح عينيك صباحاً حتى تطالعك صحافة التكسُّب والارتزاق، ولعق الأحذية، بعناوين تسبب الغثيان. وستقرأ رغم أنفك أن “والي الدار البيضاء يتجه إلى منع البارابولات”. وما أن تنتهي حتى يطلع عليك عنوان لا يقل قَرَفاً يقول بأن “والي الدار البيضاء يتجه إلى منع نشر الغسيل”. وما تكاد تنسى الأمر حتى يطلع عليك عنوانٌ ثالث يقول بأن “والي الدار البيضاء يتجه إلى هدم ومنع شُرُفات الألومنيوم”. وأسْفَلَ كل عنوان من تلك العناوين المكرورة، البَلْهاء، ستجد اسم الوالي مذكورا إلى حد الاجترار الممل، حتى أنك تشعر بأن مَنْ كتب المقال يوشك أن يُسَبِّحَ بحمد الوالي، وربما بحمد التالي أيضا.
ومن كثرة تكرار تلك الصيغة البليدة “…يتجه…” أصبحتُ ـ دون إرادة مني طبعاً ـ أتخيل الوالي قطاراً، أو حافلة ركاب، أو سفينة، وصار في ذهني مرتبطا بوسائل النقل أكثر من ارتباطه بعالم السلطة وبوزارة الداخلية تحديداً.
لكن تلك العناوين البليدة ـ مع ذلك ـ تحمل بين طياتها أمرا خطيرا، ويرادُ منها وعبرها تهييء الرأي العام المحلي والوطني للتطبيع مع قرارات مزاجية، بل وملغومة، منفصلة تماما عن الواقع، ومن شأنها تعميق مشاكل أكبر مدينة في البلاد، ناهيك عن كونها تتعارض جملة وتفصيلا مع المنهجية التي جاء بها العهد الجديد في مجال السلطة. وأعني هنا ما عبر عنه الملك محمد السادس في حينه ب”المفهوم الجديد للسلطة”، أي تلك المقاربة التي تعتمد خدمة المواطن، وإشراكه، بدل تنزيل قرارات تُذَكِّرُنا ب”أحكام قراقوش” في مصر على عهد السلاطين الأيوبيين.
فمنذ أن حل الوالي الجديد بالعاصمة الاقتصادية للبلاد قام بمنع الباعة المتجولين بكل ما يترتب عن ذلك من تداعيات اجتماعية خطيرة. ولا نحتاج هنا إلى التذكير بأن وراء أغلبية هؤلاء الباعة ـ إن لم يكن وراءهم جميعا ـ أسر فيها أطفال في سن التمدرس، وأمهات وآباء بلغوا من الكبر عتيا وهم في أمس الحاجة إلى الغذاء والدواء. وتطارد تلك الأسر المعوزة فواتير الماء والكهرباء، وواجبات الكراء، وما لا يمكن أن نتخيله من المستلزمات والمشاكل التي يضج بها الواقع الاجتماعي. وقد كان من الممكن العمل على تنظيم هؤلاء الباعة، وإلزامهم بقواعد للنظافة واحترام الجمالية المطلوبة في الفضاء العام، دون الإجهاز على لقمة عيشهم وفق مقاربة سلطوية، لا علاقة لها بالواقع، ولا تجسد في شيء الاختيارات التي أعلنت عنها الدولة المغربية في شخص رئيسها مع مطلع العهد الجديد قبل ربع قرن.
واليوم، تمهد صحافةُ لعق الأحذية لمزيد من القرارات التي تدخل ضمن نفس النهج السلطوي البائد. وها هي تُطبِّلُ وتُزَمِّرُ لمزيد من القَرَاقُوشِيَات التي تقول بأن والي الدار البيضاء يريد أن يُنزلَها على رؤوس البيضاويين من برجه العاجي دون مراعاة لواقعهم المرير. وفي مقدمتها منْعُ الهوائيات المقعرة (البارابول). وهو القرار الذي يبعث على التساؤل عن المستفيد منه فعلاً. ذلك أن منع هذه الهوائيات معناه، أوتوماتيكياً، تعويضها بالأنترنت ذي الصبيب العالي. ولنا أن نتخيل حجم الأموال التي ستنتُج عن ذلك لفائدة شركات الاتصالات، وأن نتخيل أيضا مَن ومَا الذي يمكن أن يكون وراء تلك العناوين السخيفة التي يُمطرُنا بها صحافيو “الغَفْلَة” الذين “قَطَرَ بهم السَّقف” في هذا الزمن الرديء. هذا، علماً أن العديد من الأسر تقيم في غُرفة وحيدة ولا تمتلك شققاً، وليست لها القدرة المالية على تزويد غُرَفِها بخدمات الأنترنت ذي الصبيب العالي أصلاً.
في كتاب ابن المقفع، كليلة ودمنة، الذي يقال إنه ترجمه عن كتاب هندي مفقود، يتحدث الفيلسوف بَيْدَبَا عما يسميه “سَكْرَةَ المُلُوك”. وهي حالةٌ تصيب كُلَّ من يتولى منصباً من مناصب السلطة في البداية فيستبدُّ به الأمر ويستبدُّ هُوَ أيضاً بالأمر. ولعلَّ السَّكْرَةَ إياها هي التي أصابت والي الدار البيضاء، وجعلته ينسى ـ أو يتناسى ـ أن الدار البيضاء ليست فقط أكبر تجمع سكاني في البلاد، وإنما هي أيضا أكبرُ ترسانة من المشاكل الاجتماعية في المغرب. وقراراتٌ خرقاء من قبيل منع الناس من نشر غسيلهم على النوافذ وشرفات البيوت، في ظل الهشاشة السكنية التي تعيشها الملايين داخل مدينة بهذا الحجم، معناه حشرُ اليائسين، والمُحْبَطين، في الزاوية. وهو ما سوف تترتب عنه، حتماً، مواجهاتٌ يذهب ضحيتها المواطنون وأعوان ورجال السلطة وعناصر الأمن والقوات المساعدة. فالوالي يصدر القرارات من مكتبه المكيف، وهو جالس على مقعده الوتير، بينما الذين سيدفعون ثمن الاصطدام مع المواطنين هم الذين سيتولون تنفيذ تلك القرارات الخارجة عن التاريخ. وقد رأينا جميعا ذلك المشهد الأليم عندما تهاوى رجل سلطة مطعوناً، وسقط مضرجا بدمائه، في منطقة درب السلطان بسبب المواجهات مع الباعة المتجولين، قبل بضعة أشهر من الآن.
نعم، تحتاج الدار البيضاء إلى كثير من التنظيم، والتربية المدنية، والعناية برونقها وجماليتها. ويتطلع البيضاويون إلى أن تظهر مدينتُهم بالوجه اللائق بالمغرب خلال الاستحقاقات الكروية القارية والعالمية المقبلة، المقرر تنظيمُها في المغرب سنتي 2025 و2030. ويريد البيضاويون لمدينتهم أيضا أن تكون وجهة سياحية جميلة، وأنيقة، وجذابة. لكنَّ هذا لا يتأتى بالقرارات القَرَاقُوشية. بل إنه يتطلب عقلاً تشارُكياً مبدعاً، ويقتضي حلولا مُبتكرة وخلاقة. وإلا فإن غسيلَنا جميعاً هو الذي سيُنْشَر على سُطُوح الأعداء، وربما على سُطوح بعض الأصدقاء أيضاً.

أضف تعليق