الأشياءُ الأربعة

الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس واحدٌ من أعمدة الفينومينولوجيا دون منازع. وهو، دون منازع أيضا، فيلسوفُ المغايرة بامتياز حيث كرَّس الجزء الأهم من مشروعه الفلسفي لهذا المفهوم. وبالنسبة لهذا الفيلسوف الكبير فالفينومينولوجيا يمكن تعريفُها، بعيدا عن التعقيد الذي يغرق فيه البعض، بأنها « تصف ما يَظْهَر ». وعلى هذه القاعدة البسيطة أيضا يتميز الغير من الناحية الفينومينولوجية عن باقي الموضوعات الخارجية التي تلتقي بها الذات.
لنُبَسِّطِ المسألة حتى تكون في متناول الجميع.
فأنا حين أجلس الآن في المقهى، أرتشف قهوتي وأكتب مقالي هذا في الآن نفسه، تقع عيناي على جملة من الموضوعات الخارجية : الشاشة التي أكتب عليها، لوحة المفاتيح، فنجان القهوة، قنينة الماء المعدني…ولكنَّ عينيَّ تقعان أيضا على الرجل الجالس أمامي. بَيْدَ أن الرجل ليس مثل كل الموضوعات التي سبق ذكرُها. وما يميزه فينومينولوجياً، أي من حيث « ما يَظْهَر »، هو أن له وجهاً بشرياً بخلاف جميع الموضوعات السابقة. وهذا الوجه البشري يمتاز، بالنسبة لإيمانويل ليفيناس، عن أي موضوع آخر بأنني لا أستطيع أن أحافظ أمامه على صمتي. فأنا أستطيع أن أنظر طيلة الوقت إلى الشاشة أمامي وأنا صامت. وأستطيع أن أفعل الشيء نفسه أمام لوحة فنية، وأمام شجرة، وأمام حيوان، وأمام البحر والجبل والمطر المنهمر والثلج المتساقط. لكنني ما أن تلتقي عيناي بعيني الرجل الذي أمامي حتى أهرب ببصري بسرعة. وسيفعل هو أيضا نفس الشيء. وإذا ما حدث أن أطلنا النظر إلى بعضنا شيئا ما فلن نظل صامتين وسيبادر أحدُنا بالكلام إما عن حالة الطقس، أوعن المنتخب الوطني، أو عن أجواء رمضان، أو ما إلى ذلك مما يُعرَفُ لدى اللسانيين ب « الوظيفة الفاتية» (La fonction phatique) للغة، أي بالحديث من أجل الحديث فقط.
لماذا نتصرف على هذا النحو أمام وجوه بعضنا البعض؟ أو بمعنى آخر لماذا لا نستطيع الحفاظ على الصمت أمام وجه الغير؟
جواب ليفيناس هو أن وجه الغير يحمل رسالة أخلاقية، أي أن الأخلاق هي التي تمنعنا من الحَمْلَقَة بصمت في وجوه بعضنا طيلة الوقت، وتعتبر النظر إلى وجه الغير على ذلك النحو بمثابة تشييء له، أي بمثابة نفي له كذات، أي أننا نتعامل معه في هذه الحالة على أنه مجرد شيء مثل باقي الأشياء التي ننظر إليها صامتين دون أن نكثرت لذلك. وعليه، فإن الحد الفاصل، فينومينولوجياً وأخلاقيا، بين الإنسان والشيء هو الوجه. ومتى غاب الوجه، أو تمَّ تغييبُه، صرنا أمام شيء ولم نعد أمام إنسان.
وقد حدث في الأيام الأخيرة أن صورةً لأربعة أشياء، يُرادُ لنا أن نصدق أنهن أربع نساء، تجوبُ الفضاء الافتراضي. ويظهر في تلك الصورة كل شيء من تلك الأشياء المتلفعة بالسواد وهو يرسُمُ عدداً بأصابعه من واحد إلى أربعة. والإشارة معناها، بالطبع، أن هؤلاء نسوةٌ يؤيدن تعدد الزوجات في سياق الحملة التي يشنها « الخَوَنْجُ »، بجميع فصائلهم، ضد التعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة. والحال أننا في تلك الصورة لا نرى نسوة ولا رجالا وإنما نرى أشياء ما دامت الوجوه غائبة أو مُغَيَّبَة، أي ما دام الحد الفينومينولوجي والأخلاقي بين الإنسان والشيء غائباً أو، بالأخرى، مُغَيَّباً. وهو نفسُ الوضع الذي نعيشُه في فضاءاتنا العمومية حينما تفرض علينا ثقافةُ الخَوَنْج أن نتعايش مع أشياء لا وجوه لها في الشوارع، ووسائل النقل العمومية، والأسواق، والإدارات العامة، وحتى داخل فصول المدارس ومدرجات الجامعات.
طبعاً، يُفترض في الدولة أن تمنع هذه الممارسات بموجب القانون لأن أي لباس يُخفي المعطيات التشخيصية لصاحبه لا يمكن السماح به في الفضاء العمومي. لكنْ، حتى لو تركنا البعد الأمني جانباً، فالأخلاق تقضي بألاَّ تعرفني دون أن تكون لي الإمكانية لكي أعرفك بالمقابل. وحين تجلس أمامي في القطار، أو لى متن الحافلة، أو في الفصل الدراسي، أو تقف أمامي في إدارة عمومية، فالمفروض أن يكون وجهك مكشوفا بالقدر الكافي لكي أعرفك. لكنَّ ثقافة تشييء المرأة، التي ما يزاال يحملُها ويروجها الخونج بجميع أطيافهم، تتدنى بالمرأة من مستوى الإنسان إلى مستوى الشيء، وتعتبرها ـ في آخر المحصلة ـ مجرد موضوع من الموضوعات التي يملكها الرجل. والغاية من حجب جسدها ووجهها ليست «العفة» المزعومة. فقد كشفت الأحداث والوقائع أن تنظيمات الخونج هي، في الواقع، عبارةٌ عن أوكار لأكثر الممارسات قذارةً وسقوطاً. بل الغاية هي تجريد المرأة مما يميزها، فينومينولوجياً وأخلاقياً، عن الأشياء وتمكين الملتحين داخل تلك التنظيمات الظلامية من ممارسة استيهاماتهم المَرَضية في صمت تام، ودون حاجة إلى الكلام. ومع ما قد يكون في العبارة من وقاحة فالمرأة التي تحجب وجهها يمكنها، في أول زاوية مظلمة، أن تكشف مؤخرتها لأول القادمين دون أن تخشى الفضيحة. وطبقا لمبدأ سد الذرائع فوِزْرُ العبارة يقع -بالطبع- على من اضطرنا إليها قَبَّحَ الله سعيَه وشتَّت بعره في الدنيا والآخرة.
لعل مشهد تلك الاشياء الأربعة التي تظهر في تلك الصورة البلهاء، البئيسة، يذكرنا بالتأمل الثاني من « التأملات الميتافيزيقية » لديكارت حين يقول بأنه عندما يطل من النافذة يرى قبعات ومعاطف قد تكون غطاء لآلات حديدية تحركها لوالب. فكذلك ونحن نرى اليوم تلك الصورة الغبية لا نعرف ما هي تلك الاشياء الأربعة على وجه التحديد. ولا نعرف ما إذا كانت الصورة حقيقية أم مفبركة. ولا نعرف ما الذي قد تعنيه يدٌ مرفوعة تشير بأربعة أصابع : هل تطالب بأربع نساء لكل رجل؟ أم تطلب أربع بيرات باردة؟
في كل الأحوال فإن على مَنْ يريد الدفاع عن تعدد الزوجات أن يفعل ذلك بوجه سافر. فنحن لسنا في نظام دكتاتوري وحرية التعبير مكفولة بقوة الدستور. غير أن عليهم ألاَّ ينسوا أن التعدد في القرآن جاء مقروناً بمِلْك اليمين. فالمسلم الذي يخشى عدم العدل بين زوجاته يمكنه الاكتفاء بواحدة مع إمكانية الاستمتاع بالجواري اللائي هن مِلْكُ يمينه. وعلى هؤلاء أن يدافعوا عن التعدد بكامل شروطه القرآنية وأن يعيدوا البشرية إلى أزمنة العبودية. فإن قالوا بأن العبودية قد تجاوزها العصر قلنا بأن التعدد كذلك قد تجاوزه التاريخ. ومثلما أصبح الرق مُجَرَّماً وجبَ أيضا تجريمُ التعدد. ولا يجوز في هذا الباب التحجج بأن التعدد قد أباحه القرآن لأن القرآن قد أباح العبودية أيضا.

أضف تعليق