تجدُ الخرافةُ سببَ انتشارها، حسب باروخ سبينوزا، في أن حياة الناس لا تسير كما يشتهون. فللحياة فُجَاءاتُها، وقلقُها، وهو ما يدفع الفرد إلى البحث عن معرفة ما نصطلح عليه عادةً ب”الغيب”. ومن هنا ينفتح البابُ على مصراعيه لانتشار الخرافة بين الناس.
فكرةُ سبينوزا صائبة، ولا شك، في جانب كبير منها. لكنها ـ مع ذلك ـ لا تفسر سوى استهلاك الخرافة. وهي لا تسعفنا في فهم وتفسير صناعتها. فالخوف من تقلبات الحياة قد يفسر لجوء الفرد إلى الاستنجاد بالخرافة. وهو ـ من موقعه هذا ـ يستهلكها معتقدا أنها الحقيقة التي لا حقيقة بعدها. لكنَّ صانع الخرافة، ومُرَوِّجَها، وحاميَها، يتصرفون جميعاً من موقع مختلف جذرياً. وهم جميعا يعرفون أنها وهمٌ لا يمت إلى الحقيقة بصلة ولا يلجأون إليها لمواجهة الحياة ومخاوفها وتقلباتها. فصُنَّاعُ الخرافة، ومُرَوِّجُوها، وحُمَاتُها، هم أول المتحررين منها وأول المُنكرين لها. وإذ يصنعونها ويروجونها ويحمونها فإنما يفعلون ذلك للسيطرة، بواسطتها، على الذين يصدقونها، ويستهلكونها، ويفسرون بواسطتها حياتهم الخاصة، وحياة المجتمع، ونظام الطبيعة. والسيطرة، في كل مستويات العلاقات الإنسانية، من الأسرة إلى الدولة، هي علاقة سياسية. ولا فرق بين الأب المتسلط الذي يسيطر على الزوجة والأبناء بخرافة “العُقُوق” الذي يؤدي بهم إلى جهنم إن هم خالفوه، وبين الحاكم المستبد الذي يُخضع رقاب شعب باسم خرافة أخرى أياًّ كانت تلك الخرافة. فهي قد تتخذ صيغة الانحدار من نسل الآلهة كما كان الأمر في اليابان قبل قنبلتي هيروشيما وناكازاكي، كما قد تتخذ صيغة “الطاعة الواجبة لولي الأمر” مثلما هو عليه الحال في بلدان ما يُعرَف ب”العالم الإسلامي”.
والحكم المطلق فسادٌ مطلق كما يقال. فمتى كان على إنسان أن يخضع للسلطة الاعتباطية لإنسان آخر، كما يقول كوندورسيه، صرنا أمام الاستبداد. بمعنى آخر، فحيثُما كانت سلطة الحاكم، سواء كان رب أسرة أو رئيس دولة، تُمَارَسُ خارج رقابة القانون والمؤسسات التي تسهر على ضمان احترامه، صرنا أمام الحكم المطلق الذي يتلازم مع الفساد المطلق. وحيثُما ساد الحكم المطلق ظهرت الحاجة إلى إضفاء طابع “فوق ـ بشري” على الحاكم، وصارت الخرافة بحكم ذلك واحداً من التوابل الضرورية لتسويغ الاستبداد، مع التنبيه إلى أنني لا أراعي في هذا المقال الفوارق المفهومية الدقيقة التي قد تقوم في بعض الأنساق الفلسفية بين معنى الاستبداد ومعنى الحكم المطلق في عمومه.
يحتاج الحاكم المطلق، المستبد، إلى هالة “القداسة” حتى تظل أفعالُه وممارساتُه خارج دائرة المساءلة. و”القداسة” تحتاج، بدورها، إلى مؤسسة تضفي عليها الشرعية. وهو الدور الذي تتكفل به المؤسسة الدينية في العادة. ولأن رجل الدين يعي تماماً ذلك الدور الحيوي الذي يلعبُه لصالح الاستبداد، ولصالح الحاكم المُطلق، فهو يحرص على أن يحقق من ذلك الدور أكبر قدر ممكن من المنافع لنفسه، فلا يضفي “القداسة” على الحاكم إلا بنفس القدر الذي يضفيها به على نفسه، ولا يُحصِّنُ الحاكم وأفعاله وممارساته من المساءلة إلا بقدر ما يحصن نفسه، وأفعاله، وممارساته هو أيضا. وسبيلُه إلى هذا وذاك هو صناعة الخرافة، وترويجُها، تحت حماية الحاكم. ولذلك لم تكن الانتهاكات في قصور المستبدين أشدَّ ولا أعتى منها في الزوايا المعتمة للكنائس. ويكفي أننا شهدنا في القرن الحادي والعشرين كيف تضطر الكنيسة إلى تنظيم حملة لجمع التبرعات حتى تسدد التعويضات اللازمة لضحايا الاغتصاب من طرف رجال الدين “الأتقياء” “الأصفياء”. هذا، دون أن نتحدث عن ذلك التاريخ الطويل العريض الذي تداخل فيه فسادُ الحكام وفسادُ رجال الدين في كل التجارب الحضارية دون استثناء.
وعبر مراحل هذا التاريخ ظلت الخرافة تغطي على فساد الحاكمين، وعلى فساد رجال الدين، وعلى كل الذين يقفون بجوارهم ويسيرون وراءهم من أصناف المفسدين. وما نزال نشهد إلى اليوم كيف يتظافر الاستبداد والفساد والخرافة في نموذج فادح وفاضح هو النموذج السعودي. فالبلد الذي يُسَلَّط فيه المنشار على الرقاب ، هو نفسُه البلدُ الذي ينفق أمراؤه وأثرياؤه الأموال بسخاء نادر في المواخير وما يدخل في حكمها من أسواق النخاسة المعاصرة والاتجار في البشر، وهو عينُه البلدُ الذي يُصدِّرُ أكبر إنتاج عالمي من الخرافات الظلامية إلى باقي بلدان “العالم الإسلامي” إن لم نقل إلى العالم أجمع.
واستنتاجاً، فقد لا تكمن المعضلة في فرد يستهلك جرعة صغيرة من الخرافة حين يلتجئ إلى عَرَّافة في باريس أو واشنطن رغم أن ذلك يتناقض مع العيش في عاصمة الأنوار أو في عاصمة أول دولة في مجال البحث العلمي. ذلك أن مدى تلك الخرافة يقف عند الاستجابة لحاجة نفسية عابرة لدى فرد. ومهما تعدد الأفراد الذين يلتجئون إلى الخرافة في هذه الحدود فهي لا تصل حدَّ تشكيل غلافٍ واقٍ للفساد السياسي. بل الخطرُ الأكبر يكمن في الخرافة المُمَأْسَسَة التي تحمي المفسدين من المساءلة من طرف الإنسان، وما تزال (في عصر الذكاء الاصطناعي) تعدُهُم حتى بالصفح الإلهي وتبيع لهم “صُكُوكَ الغفران”.