كان جيف بيزوس، صاحب موقع أمازون العالمي، مجرد عامل بسيط في سلسلة مطاعم ماكدونالدز. وقبل ذلك كان مجرد طفل وحيد، تخلى عنه والده، واحتفظت به أمه التي تزوجت من مهاجر كوبي. وكان ذلك المهاجر الكوبي، زوج الأم، هو الذي تبنى الطفل المُتخلَّى عنه، وأعطاه اسمه. واليوم يحتل جيف بيزوس المرتبة الثانية عالمياً على سُلَّم الأثرياء. وليس بيزوس حالة معزولة في المجتمع الأمريكي. فقبل بيزوس كان بيل غيتس، مؤسس شركة ميكروسوفت العالمية، شابا لم يكمل تعليمه. لكنه صار كذلك واحدا من أغنى أغنياء العالم. وربما تكررت نفسُ قصة غيتس مع مارك زوكربورغ، مؤسس شركة ميتا العالمية، الذي لم يكمل تعليمه هو الآخر. وبالتأكيد، فالمجال هنا لن يتسع لاستيعاب كل قصص الأمريكيين ـ وغير الأمريكيين ـ الذين انتقلوا من الفقر، والفشل الدراسي، إلى النجاح الباهر في عالم المال والأعمال، وصاروا من كبار أثرياء العالم.
يحدث هذا، بالطبع، في العالم المتقدم، داخل منظومات الاقتصاد الحر، في بلدان يسودها القانون وتحكمها المؤسسات، ويُضْمَنُ فيها للجميع الحقُّ في المنافسة الشريفة، ويزجُرُ القانون بالمقابل كلَّ إخلال بما تقتضيه قواعد التنافُس النزيه. ولو سألت كل هؤلاء الذين نجحوا هناك فستجد أن نجاحهم، على الصعيد الفردي، يعود إلى خاصيتين : الذكاء والعمل. فهم أذكياء في اختيار وتسيير وتنظيم أعمالهم، وهم ـ إلى جانب ذلك ـ أشخاص يعشقون العمل ويتفانون فيه.
غير أن لدينا ـ في هذه الرقعة الممتدة من ماء المحيط إلى لُجَّة الخليج ـ أثرياء أذكى بكثير من كل البيزوسات والغيتسات والزوكربورات. ولن يستطيع أي أمريكي، أو ياباني، أو بريطاني، أن ينجز ما أنجزوه ولا حتى أن يفكر فيه. فهم، ضداُّ على جميع قوانين الاقتصاد، قد أثروا الثراء الفاحش بوسيلة واحدة ووحيدة هي الدعاء. وأشهرُهُم المدعو عمرو خالد. والأدهى أننا نعرف ثروة بيزوس وغيتس وزوكربورغ لأنها مُعْلّنَة ولأنهم يدفعون الضرائب. لكننا لا نستطيع معرفة ثروة عمرو خالد ولو على وجه التقريب. وحتى المجلات العالمية التي اعتادت أن تحصي ثروات رجال ونساء الأعمال المشهورين عبر العالم، وثروات السياسيين البارزين على سطح الكوكب الأرضي، فهي لا تخبرنا بالتدقيق عن ثروة الرجل. وكل ما نجده من معلومات متناثرة هنا وهناك ينحصر في أنه ـ مثالاً لا حصراً ـ استطاع أن يجني في سنة واحدة مليونين ونصف مليون دولار أمريكي. كما أنه استطاع أن يحصل، في سنة واحدة أيضا، على منحة بريطانية بقيمة 47 مليون جنيه إسترليني. وأترك للقارئ أمر تحويل هذين المبلغين إلى العملة المحلية التي يريدها.
الإثراء بالدعاء غير ممكن في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا في بريطانيا، ولا في اليابان، ولا في غيرها من البلدان المتقدمة. فالأمريكي يؤمن بالعمل، والبريطاني يؤمن بأن المال يصنع المال، والياباني ـ حتى وهو في القرن الحادي العشرين ـ ما يزال يحتفظ في داخله بروح مقاتلي السَّامُورَاي ويواجه الحياة بروح قتالية تكاد تكون بلا نظير على الصعيد العالمي. وبحكم هذا وذاك فلا أحد هناك يمكن أن يشتري الأدعية من أمثال عمرو خالد. وأقصى ما يمكن أن يحصلوا عليه هناك هو حياةٌ بئيسة في مسجدٍ ما كمؤذنين أو كأئمة يعتاشون على أعطيات الجاليات المسلمة وعلى المساعدات التي تقدمها بعضُ الحكومات. فبيعُ الأدعية والتعاويذ يشترط وجود جحافل من مكسوري الأذرُع، والفاشلين، والمُحْبَطين، والمُتواكِلين، الذين ينتظرون من السماء أن تحل مشاكل الأرض. وهم عوض أن يردوا البطالة إلى محدودية اقتصادات بلدانهم، وإلى السياسات الحكومية الفاشلة، يعتبرونها قضاءً ربَّانياً وقَدَراً إلهياً. وبدل أن يروا أن المنافسة الشريفة غائبة في بلدانهم بسبب استشراء الفساد السياسي، والإداري، وتفشي الرشوة، وانتشار المحسوبية والزبونية، يعتبرون انحسار اقتصادات بلدانهم وضعفها نتيجة لمؤامرة عالمية مزعومة. وهم لا يرون في الزيادات غير المشروعة نصباً على الزبائن وإنما يعتبرون ذلك من باب «الغفلة» بين البائع والمشتري، بل ويدعون الله أن يأتي بتلك الغفلة بين الاثنين. ولا يقتصر الأمر على المواطنين، أو بالأحرى مَنْ يُفتَرَضُ أنهم في حكم المواطنين، وإنما يمتد إلى الحكومات التي لا تتردد هي الأخرى في رفع أكُفِّ الدعاء إلى الله لكي يحل المشاكل بدلاً عنها، ويكفيَها عناء دراستها، وتشخيصها، وبلورة الخطط العلمية لحلِّها. ولعل الجميع يذكر كيف أن الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية، حينما طُرِحَ عليه سؤال في ندوة صحفية، كان جوابُه : «الله يعطينا الشْتا».
ففقط في مجتمعات على هذه الشاكلة، تسيرها حكومات على هذا المنوال، يجد باعةُ الأدعية مجالاً لترويج بضاعتهم، ويجد السياسيون في تلك البضاعة وسيلة هي الأكثر نجاعة على الإطلاق لإقناع القطيع برفع مشاكله إلى الله وترك الحكومات والحُكَّام يستفردون بالسلطة والثروة. ذلك أن كل ما عند الآخرين من مظاهر التقدم، والرفاهية، والحكامة الجيدة، و… هو من متاع الدنيا الذي ينبغي ألاَّ نَمُدَّ أعيُننا إليه لأن لنا الآخرة دونَهم. والله عنده حسنُ المآب.