للأديب الفرنسي الشهير، كريتيان دو تروا، روايةٌ ربما هي أشهرُ ما كتبه. وهي، بالطبع، رواية “إيفان أو الفارس صاحب الأسد” التي تُعتبر من النصوص المؤسِّسَة للأدب الفرنسي في العصر الوسيط. ولا تهمنا هنا هذه الرواية، ولا أحداثُها، ولا شخُوصُها. وللقارئ الشغوف أن يعود إليها إذا كان يريد ذلك. فكل ما يهمنا منها هنا هو جملة يُعَرِّف فيها الأديب الفرنسي الكبير معنى الحكمة على لسان أحد شخوصه فيقول بأن الحكيم عليه أن يُخفي خواطره الحمقاء وأن يطور، ما أمكنه ذلك، ذكاءه. وهو ما يسمح لنا بالقول إن الحكمة هي التحكم في الانفعال، أو في الخواطر التي يصفها دو تروا ب”الطائشة” أو “الحمقاء”، مقابل الارتقاء بالذكاء ما وَسِعَ الأمر.
أستحضر اليوم قولَ دو تروا هذا بعد أن تم الإعلان، يوم السبت 20 أبريل 2024، بالولايات المتحدة الأمريكية، عن قيام “جمهورية القبائل” من طرف حركة الاستقلال الذاتي للقبائل المعروفة اختصارا ب”الماك”. فقد سارع البعضُ إلى إظهار الابتهاج بهذا الإعلان كنوع من رد الفعل على الموقف الجزائري المعادي للوحدة الترابية المغربية، والذي لم يعد يقتصر على قضية الصحراء المغربية، وإنما امتد إلى اختلاق حركة انفصالية مزعومة في الريف المغربي أيضا.
لن نختلف في كون الموقف الجزائري، بقديمه المتعلق بالصحراء وجديده المتصل بالريف، مجرد “خواطر حمقاء”، أو “خواطر طائشة”، هي أبعد ما يكون عن الحكمة. لكننا ـ ربما! ـ لن نختلف أيضاً في أن إظهار الابتهاج بتمزيق الجزائر ليس أقرب من ذلك إلى الحكمة. ولربما كان الذكاء يقتضي التساؤل عن دوافع التحول الذي حصل في موقف حركة “الماك”. فهي كانت حركة تعمل من أجل الحصول على الاستقلال الذاتي. لكنها اليوم انتقلت لا فقط إلى المطالبة بالاستقلال التام وإنما إلى إعلان قيام الدولة. وهذا معناه أن الجزائر صارت مبدئيا في حكم الدولة المحتلة. وقد نقلت إلينا وسائل الإعلام أن “جمهورية القبائل” قد صارت لها ممثلة داخل منظمة الأمم المتحدة، وأن هذه الممثلة ستدافع عن استقلال المنطقة فعلياُ عن الجزائر. كما نقلت وسائل الإعلام أيضا أن دولاً عديدة يُنتَظَرُ أن تؤيد الإعلان عن قيام هذه “الدولة” وأن تعترف بها.
لا مكان هنا لطرح الأسئلة البليدة عمَّن يقف وراء هذا التطور السريع والخطير. فالأمر يتعلق بآلة دبلوماسية قوية، نافذة، ناجعة، تمتلك القدرة على التأثير داخل المنظمة الدولية كما أن لها ما لها من تأثير على الدول التي يُنتظر أن تعترف ب”جمهورية القبائل”. فكأننا أمام تنفيذ عملية “قص الأجنحة” التي يُخيَّل إلي أنني سبق أن سمعتُ الحديث عنها في مكان ما، وفي زمان ما، وفي سياقٍ ما. ودون الدخول في شرح الواضحات فإن الجزائر تقف اليوم على عتبة حمَّام من الدم لن تختلف نهايتُه عن المشهد الذي نراه في ليبيا منذ ثلاثة عشر عاماً: حربٌ أهلية، وانقسامات سياسية داخلية، وبدايةٌ عملية لمسلسل احتلال أجنبي.
وبسقوط الجزائر في براثن هذا المآل المأساوي نصبح أمام المشهد عينه في رقعة تمتد من حدود المغرب الشرقية إلى حدود مصر الغربية. وتصبح تونس، بحجمها الصغير، بين فَكَّي كمَّاشة ويسهل ابتلاعُها في أي لحظة. وعندها لن نكون أمام “قَصِّ الأجنحة” وإنما سنصير أمام اقتلاع الأحشاء في مشهد دموي رهيب يشبه إلى حد بعيد وليمة الضباع. وسنرى لحمنا المغاربي، بما فيه المغرب نفسُه، يتناثر أشلاء بين أنياب ومخالب الضباع التي سنكون قد سلَّمناها أحشاءنا بأيدينا في وليمة سخية نحنُ مَنْ أعدَّ لها. فالذي مزَّق ليبيا بالأمس، ويمزق الجزائر اليوم، لن يوفر تونس والمغرب غدا. وإذا نجح في ذلك صارت مصرُ أيضا على طاولة هذه المشرحة الرهيبة المقيتة.
نعم، لقد انتهى زمن الفروسية والفرسان، وتوارى عصر الزعامة والزعماء، وولَّى قبلهُما معاً عهدُ النبوة والأنبياء. ولن ننتظر فارساً مُنقذاً يخرج من عالم الأساطير على شاكلة بطل رواية كريتيان دو تروا. كما لن ننتظر زعيما من طينة بسمارك أو غاريبالدي ولا نبياً مثل سليمان يوحد تحت سلطته الإنس والجن. ويجب أن نكون واعين تماماً بأن آلياتٍ أكبر من قدراتنا المحدودة عملت وتعمل على إنتاج أجيال رخوة، مهترئة، لا معنى لديها للوطنية، ولا للأوطان، ولا قدرة لها بتاتاً على المقاومة. وهذه ـ مع الأسف الشديد ـ هي الأجيال التي ستجلس خلال العقود القادمة على جبال وبحار من الثروات التي يزخر بها الشمال الإفريقي براُّ وبحراً. وهي (مع الأسف الشديد أيضا) أجيالٌ غير قادرة ـ مالم يتغير نمطُ تربيتها ونمط عيشها ـ حتى على رفع سراويلها، فأحرى أن تكون جديرة بالمحافظة على أوطانها وثرواتها. والعيب، بالطبع، ليس فيها وإنما في المسؤولين عنها.
لا أحد في دوائر القرار العالمي يهمه الأمازيغ. ولا أحد يعنيه قيام “دولة أمازيغية” في الشمال الجزائري. ولا أحد تهتز له شعرة لانتصار المغرب في معركة وحدته الترابية. ولا أحد يكترث لاسترجاع ليبيا لوحدتها واستقرارها. ولا أحد يرف له جفن لبقاء تونس. ولا أحد يخفق قلبُه لاستمرار مصر مستقرة وموحدة. لكن الجميع معني بثروات شمال إفريقيا وخيراته. وكلما كانت دول الشمال الإفريقي ضعيفة، ممزقة، غارقة في الحروب الأهلية وفي الجهل والتخلف، كان الوصول إلى الثروات والخيرات أسهل. وبالطبع، فلا علاقة لما أقوله هنا بالترديد السخيف ل”نظرية المؤامرة” الساذجة. لكن تفنيد ورفض “نظرية المؤامرة” في صيغتها الخرافية لا ينفي بحال من الأحوال وجود أطماع فعلية، واقعية، في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. ونحن نحتاج اليوم، كما قال دو تروا، إلى كبح خواطرنا الطائشة وإلى كثير من الذكاء، أي إلى أكبر قدر ممكن من الحكمة. فالجزائر الموحدة، بكامل العداء المُعلَن والمُضمَر لحكامها تجاهنا، خيرٌ لأمن المغرب واستقراره من جزائر ممزقة، موزعة بين “ملوك الطوائف” وجزمات الجنود الأجانب.