غداً، الثالث من ماي، يتم تخليد اليوم العالمي لحرية الصحافة كما جرت على ذلك العادة. وسيتم بالمناسبة ترديد نفس الكلام المُبْتَذَل، ونفس الحديث عن «السلطة الرابعة» وعن «مؤرخ اللحظة». وسيتم الاكتفاء بذات الخطاب الذي ظل يتردد في هذه المناسبة منذ عقود خلت. ثم سيمضي اليومُ كسائر الأيام ولن يتغير في الواقع أي شيء.
اليومُ العالمي لحرية الصحافة ليس كسائر الأيام العالمية التي يتم الاحتفال بها. فظهور الصحافة، في شكلها المكتوب أولاً، وفي صيغتها المسموعة بعد ذلك، ثم في نمطها السمعي البصري مع اختراع التلفزيون، وأخيرا في وضعها الرقمي الحالي، يجسد أهم ما يمكن أن يميز الإنسان.
لقد كان الفيلسوف الوجودي الأكثر شهرة، جان بول سارتر، يقول إن «الحرية ماهية الإنسان». والصحافة، منذ ظهورها، كانت تجسيدا لهذه الماهية أولاً وأخيراً. فظهورُ الصحيفة المكتوبة في حد ذاته كان إعلاناً جماهيرياً عن نهاية العهد الذي كانت فيه المعرفة، والمعلومة، والخبر، حكراً على فئة من لصوص الدين والحُكَّام المستبدين بالرقاب. وهذا النزوع نحو الحرية هو الذي ما يزال اليوم مستمرا في عز الثورة الرقمية، والصعود المتواصل للشبكات الاجتماعية، والتطور المذهل لتكنولوجيا الإعلام والاتصال.
حرية الصحافة ليست جزءً من حرية الإنسان، ولا هي واحدة من بين الحريات العامة فقط، وإنما هي حريةُ الإنسان عينُها. ولأنها كذلك فهي تستدعي التساؤل المستمر والدائم عن وضعها، وعن المُؤتَمَنين عليها، وفي مقدمتهم ـ بالطبع ـ أولئك الذين يحملون صفة «الصحافيين» رسمياً، أو يجسدونها من خلال ممارستهم العملية. فمن تحصيل الحاصل اليوم أن نتوقف عند اتساع مجال الممارسة الإعلامية مع ظهور «صحافة المواطن» ومنصات التدوين المختلفة وما إلى ذلك. لكنْ، وبالمقابل، فليس من الترف الزائد أن نتساءل عما يقدمه هؤلاء وأولئك اليوم في محراب «صاحبة الجلالة»، وبأي قدر يخدُمون بالفعل، أو لايخْدُمُون، حرية الصحافة، أي حرية الإنسان في آخر المحصلة.
ربما لم تعد معركة حرية الصحافة اليوم قائمة ضد مقص الرقيب، ولا ضد عصا الدكتاتور، بقدر ما هي أضحت معركة أخلاق وأخلاقيات ضد مَنْ يحملون القلم، أو يمسكون بالميكروفون، أو يتحدثون أمام الكاميرا. فبقدر ما كان الانفجار الرقمي مفيدا في توسيع نطاق الممارسة الإعلامية، وبالنتيجة في توسيع مجال الحرية، كان مدمراً على صعيد منظومة القيم التي ظلت تؤطر العمل الصحفي في صلتها بالمرجعية الكونية لحقوق الإنسان، وبمنظومة الحريات الفردية والجماعية، وبمقتضيات الحكامة الجيدة، ومستلزمات العدالة الاجتماعية، وشروط الممارسة الديموقراطة، ومعايير النظام القضائي العادل، وما إلى ذلك من الأسس التي لا تتحقق حرية الإنسان بمعناها الحضاري والثقافي إلا بها ومن خلالها.
اليوم ـ وينبغي أن نمتلك الشجاعة الكافية للإقرار بذلك ـ نحن أمام فوضى شاملة على صعيد الممارسة الصحفية. فقد صار بإمكان كل من هَبَّ أن يَدِبَّ في الأرض وهو يحمل كاميرا ولاقطاً صوتياً ليُمارس (وأستسمح عن اللفظ) ما يمكن أن نسميه «التغوُّط الإعلامي» دون اعتبار لحرية الأفراد، ولا لذكائهم، ولا للقيم الاجتماعية، ولا لقواعد التواصل. والفوضى (أو ما كان اليونانيون القدماء يسمونه «Stasis») هي مرادفٌ للجَوْرِ المطلق وهي ألذُّ أعداء العدالة. ومن تمَّ فهي أشدُّ أعداء الحرية. وبفعل هؤلاء التافهين، الذين لا ينتجون إلا الرداءة والتفاهة، يتدنى الذوق العام، ويفقد الناس يوماً عن يوم حاسة الجمال، وتغرق المجتمعات الإنسانية لحظةً بعد أخرى في قلة التربية، وانحطاط المستوى المعرفي، وتراجع الذائقة الفنية، وما إلى ذلك. وباختصار، فإن ما كان يُنتظَرُ منه أن يخدُم حرية الصحافة، أي حرية الإنسان في آخر المطاف، ينقلب إلى نقيضه. وعوض أن يستمر الارتقاء في اتجاه الإنسان نعود القهقرى صوبَ ما يمكن أن نسميه «الحيَوان المُرَقْمَن»، أي نحو نسخة من الإنسان تمتلك آخر صيحات التكنولوجيا وتغيب عنها، بالمقابل، أبسط مبادئ الأخلاق، وتفتقر إلى أقل القيم الإنسانية.
إن الحرية تنقلب على نفسها. والذي يهدد حريتي اليوم كفرد لم يعد الدكتاتور الذي يفرض علي حظر التجول، ولا الرقيب الذي يمنعني من الكلام، ولا رجل الدين الذي يهددني بالمحرقة، وإنما هو ذاك الذي يمارس ما يدخل في حكم الصحافة، والذي يندس بقلمه، أوآلة تصويره، أوكليهما، في المساحة الفردية الخالصة ويحولها إلى مادة «إعلامية» يعرضها على العموم. وهو لا يهدد حريتي كفرد فقط وإنما يهدد حرية الصحافة، أي حرية الإنسان، برمتها حين يُعْدم الخيط الرفيع الفاصل بين المجال العام والمجال الخاص. والأكيد أننا حين نجد أنفسنا أمام من يصور حتى لحظاته الحميمية في المرحاض، ويبثها على الملأ، لم نعد في رحاب «صاحبة الجلالة» بكامل هيبتها، وإنما صرنا في ضيافة الخ… الذي سوف «يطلي» حياتنا جميعاً إن لم يكن قد طَلاَها بالفعل !