مُتلازمة بنكيران

في عام 2018 أصدر عالم النفس والمحلل النفساني الفرنسي، ديديي بورجوا، كتابه الذي أعلن من خلاله عن اكتشاف متلازمة جديدة أطلق عليها اسم “متلازمة شوبنهاور”. وخاصيتُها الرئيسية أنها تصيب الشباب ذوي الذكاء السابق لأوانه أو الذين يمكن القول إنهم يمثلون حالات نُبُوغٍ مبكر. وحسب بورجوا فهذه المتلازمة الجديدة تدخل ضمن ما يعرف في مجال السيكولوجيا ب”الحالات الحَدِّية”، أي تلك الحالات التي تقع بين العُصاب والدُّهان.
ولربما يحتاج الأمر إلى بعض الشرح المبسط حتى يكون ما يَرِدُ هنا مفهوماً بالنسبة للقارئ غير المختص. فالمقصود بالعصاب هو، ببساطة، اضطرابٌ نفسي تكون له تجليات جسدية دون أن تكون له أسباب عضوية يمكن أن يكشفها التشخيص الطبي. لكن هذا الاضطراب لا يصل إلى الحد الذي يفقد معه المريض الصلة بالواقع. وذلك بخلاف الدُّهان حيث السمة الرئيسية هي أن المريض يفقد علاقته تماما بالواقع ويصبح في عالم آخر لا يراه ولا يسمعه إلا هو. أما ما يسمى ب”الحالات الحَدِّية” فهي تقع ـ كما قلنا ـ بين العصاب والدهان، حيث تبدو على المريض اضطرابات سلوكية وجسدية، وقد يعاني أيضا نوعاً من الهشاشة الاكتئابية، دون أن يكون ذلك عائقا أمام اندماجه الاجتماعي. فهو يباشر مهامه اليومية، ويذهب إلى عمله، أو دراسته، أوتجارته، ويقوم بدوره داخل الأسرة، ويلتقي أصدقاءه في المقهى، ويمارس الأنشطة المختلفة، لكنه مع ذلك أبعد ما يكون عن الصحة النفسية.
ولَعَلِّي قد اكتشفتُ ـ والله أعلم دائما وأبداً ـ متلازمة جديدة بدوري رغم أنني لست مختصا في علم النفس ولا في التحليل النفسي ولا في الطب النفسي، ولا أهتم بهذه المجالات إلا في صلتها بالمجال الذي أشتغل داخله والذي هو مجال الفلسفة. وهي المتلازمة التي قررتُ أن أطلق عليها اسم “متلازمة بنكيران” نسبةً إلى رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، والتي قد تدخل هي الأخرى ـ مثل متلازمة شوبنهاور ـ ضمن الحالات الحَدِّية.
ولربما كان أول أعراض هذه المتلازمة هو الحب الجنوني للسلطة. فالرجل، منذ استبعاده من رئاسة الحكومة بعد مسلسل “البلوكاج الشهير”، وهو يُهَلْوِس بطريقة تكاد تكون مثيرة للشفقة. فقد تحدث في عدة مناسبات ـ وبكثير من الحنين ـ عن علاقة مزعومة مع الملك محمد السادس. وروى من ضمن ما رواه أن والدته، حين كان الملك في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، قد سألته عنه قائلة: “واش سولتي فصاحبك؟”
وبصرف النظر عن الرسالة التي حاول بنكيران تمريرها من خلال هذا الكلام فهو يكشف أن الرجل ـ حين كان رئيسا للحكومة ـ لم يكن يتصور أنه مجرد قطعة صغيرة على رقعة الشطرنج، وأنه في عداد العابرين، ولن يكون أبداً جزءً من الدائرة الضيقة للملك. وقد كان يتوهم ـ حسب ظاهر قوله ـ أنه صار “صديقاً” للملك. أما باطنُ القول فلا يكشفه القول بقدر ما يكشفه سياق الأحداث قبل ثلاثة عشر عاماً من الآن، أي في ظل ما عُرِفَ ب”الربيع العربي”. فآنذاك كانت تقديراتُ إدارة الرئيس باراك أوباما تقول بأن من الممكن أن تحافظ الولايات المتحدة الأمريكية على مصالحها في منطقة “مينا” (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، وأن تعززها، عبر دعم “الإسلاميين” والتحالف معهم. وهو ما فعلته على أرض الواقع عندما قدمت دعماً ماليا سخيا بلغ 25 مليون دولار لفائدة الحملة الانتخابية للإخوان المسلمين في مصر، ناهيك عن دعمها لحركة النهضة في تونس، وغيرها. وفي سياق هذه الموجة وجد عبد الإله بنكيران نفسه محمولاً بقدرة قادر ـ أو بقدرة عبد القادر! ـ إلى رئاسة الحكومة. وكان الأمر شبيها بحَجَر باروخ سبينوزا الذي قُذِفَ به فتدحرج. وأثناء تدحرجه صار واعياً فظَنَّ أنه كان يتدحرج من تلقاء نفسه. فتوهم بنكيران أن “الفتح” قد جاء وأن الناس قد صوتوا عليه، بالفعل، أفواجاً. ولم يدرك أن الأرانب التي كانت تتقافز متراقصة أمامه كانت، مثل عِجْلِ السَّامري، مَحْضَ جسد له خوار!
اغترَّ الرجل وأصابه ما سماه بيدبا الفيلسوف، في كتاب كليلة ودمنة، ب”سكرة الملوك”. فخرج على الناس ليُعلن النصر المبين بتلك الحركة التي كان المغاربة يطلقون عليها، إلى حدود السبعينات، “الكازي”، والتي كانت تشير في العرف الشعبي إلى فحولة مزعومة لصاحبها وإلى هتك عرض الطرف الذي تُوَجَّه إليه. وهو نفس المعنى الذي أكده بنكيران حينما قال لبرلمانية مُعَارِضة عبارته الشهيرة “ديالي اللي كبير عليك”.
أما ثاني أعراض “متلازمة بنكيران” فهو التماهي مع بعض الشخوص التاريخية التي لها رمزية خاصة في الوجدان الإسلامي. فقد روى الرجل أنه حين تم تعيينُه رئيسا للحكومة لم ينم تلك الليلة وبات يبكي. وهو في ذلك يسترجع شخصية الخليفة الأموي، عمر بن عبد العزيز، ويستعيد قبله شخصية عمر بن الخطاب. لكنه، لسوء حظه، أبعدُ ما يكون عن المرويات التي تُحكى عنهما معاً. فعمر بن عبد العزيز رفض الطعام الفاخر، والأثواب الناعمة، وجرد نساءه من مجوهراتهن وأمر ببيعها ووضع ثمنها في بيت المال. وعمر بن الخطاب حمل قربة ماء وذهب يسقي الناس في السوق حتى لا توسوس له نفسُه بالترف والبذخ على حساب بيت مال المسلمين. أما بنكيران فهو إلى اليوم يأكل السُّحت، ويتقاضى سبعة ملايين سنتيم شهريا من المال العام دون أي عمل يقوم به رغم أنه صاحب مقولة “الأجر مقابل العمل” التي ضرب بها الحق الدستوري في الإضراب.
ولربما كان ثالثُ أعراض “متلازمة بنكيران” ـ وليس آخرها بالتأكيد ـ هو “التَّلْفَة”. فالرجل كان يصرخ بملء حنجرته في وجه الحكومة الحالية، ويعاتبها على الزيادة في أجور الموظفين، فإذا به يخرج ـ دون سابق إشعار ـ ليصرح بالعكس تماما، وليقول بأن الحد الأدنى لأجر الموظف يجب أن يصل إلى عشرة آلاف درهم. ولسان حاله في ذلك يقول إنه يحلم بالعودة إلى رئاسة الحكومة بأي شكل من الأشكال. فهو لم يفهم بأن الأمر كان ومضى وانقضى. بل كان يتخيل أنه قد أضحى شريكاً في المُلك، ومضى يبحث لنفسه عن نَسَبٍ ينافس به نسبَ الأسرة الحاكمة، وحين لم يجد سبيلا إلى ذلك من جهة الأب ادعى أن أصل أمه يعود إلى الصحابي سعد بن عبادة. وهذا الاختيار ليس عبثا وإنما له دلالات في منتهى الخطورة. فسعد بن عبادة ليس سوى مرشح الأنصار لخلافة النبي في سقيفة بني ساعدة، أي مُنافس أبي بكر الصديق على الخلافة!
إن الرجل لا يريد في أعماق نفسه حزباً، ولا حكومةً، وإنما يريد مُلْكاً. فإن لم يكن فَنِصْفَ مُلك على الأقل عملا بقول الأنصار يوم السقيفة: “منا أمير ومنكم أمير”. وهو لا يعلم ـ في استيهاماته أو في استمناءاته ـ أنه في القرن الحادي والعشرين، وأن المقياس هو البرامج الناجعة التي تحمي مكاسب الناس وتتجاوب مع طموحاتهم، وأن الناخبين ليس لديهم على الإطلاق ما يفعلونه ب”أصل أمه”!

أضف تعليق