عندما ضرب زلزالُ الحوز المغرب تخيل الأعداء أن حدود البلاد ستُفتَح أمام كل الوافدين باسم تقديم المساعدات، وأن ذلك سيشكل فرصة سانحة لكل المتربصين بأمن البلاد لكي يتسللوا، وينفذوا ما تيسر من اختراقات بمختلف الأشكال. لكن المغاربة قالوا للعالم أجمع بأنهم، بالفعل، شعبُ التحدي، وأن الملك الراحل، الحسن الثاني، حين قال ذلك عنهم لم يكن يُزايد أو ينطق عن الهوى، وإنما كان يعبر بالفعل عن معدن الشعب المغربي.
هبَّ المغاربة بكل فئاتهم ومستوياتهم الاجتماعية، لا لتقديم المساعدات للمناطق المتضررة فقط، وإنما لإعطاء درس في التضامن سجَّلَه العالم أجمع بكامل الاحترام. وعوض أن تكون الكارثة دافعاً للانتكاس فقد تحولت ـ من خلال البرنامج الذي أعلن عنه الملك محمد السادس ـ إلى قوة دافعة من أجل تنمية المناطق المتضررة من الهزة الأرضية. وذلك من خلال منظومة من المشاريع المندمجة والمتكاملة. والأكيد أن هذا البرنامج، حين سيتم الانتهاء من إنجازه، رغم كل الصعوبات والتحديات التي تواجهه، سيكون فرصة أخرى للوقوف على عظمة الشعب المغربي وعلى حكمة قيادته وبعد نظرها.
لكن كل هذا لا يمكن أن يحجب عن نظرنا بعض النشاز رغم أن النشاز عادةً يُسمَعُ ولا يُرى. والنشاز الذي أتحدث عنه هنا يتمثل في ما أعلن عنه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، من تخصيص ما يزيد عن 120 مليار سنتيم لترميم الأضرحة والزوايا التي تضررت من الزلزال.
نعم، فالمغرب معروف بأنه “بلد المائة ألف ولي” كما يقال. وهؤلاء “الأولياء” الذين تنتشر اليوم أضرحتهم على امتداد البلاد منهم أقطاب صوفيون، ومجاهدون ساهموا في الدفاع عن الثغور، وزعماء زوايا كان لها في الماضي بعض الأثر الإيجابي في حياة الناس. لكنها ـ وبصرف النظر عن الاستغلال الأيديولوجي لها في الراهن ـ لم تعد اليوم تحمل نفس الرمزية ولا هي عادت تجسد نفس الأبعاد. بل إن تلك الأضرحة أصبحت اليوم تشكل نواة ل”مواسم” تكرس الجهل والتخلف وحاضنة لأفكار رجعية، ظلامية، تنتصب عائقاً أمام الرهان الحداثي، وتمثل حاجزا أمام نشر نور العقل وإفشاء روح التفكير العلمي في المجتمع المغربي.
بل إن دور الزوايا، حتى في الماضي، كثيرا ما كان سلبيا. ويمكن بالطبع لأهل الاختصاص أن ينيروا هذا الجانب أكثر مما يمكنني أن أفعل. لكني مع ذلك أعرف أن سلطة الزوايا، في عهد السلطان مولاي سليمان، كانت من العوائق الكبرى أمام انخراط المغرب في روح النهضة الحديثة التي كانت تحدث على مسافة قريبة جدا من شواطئنا الشمالية. وقد كانت تلك الزوايا هي التي فرضت على السلطان أن يغلق أبواب البلاد أمام نسائم الحداثة. وكانت النتيجة هي التخلف ثم الاستعمار بكل تبعاته التي لم نخرج منها حتى الآن. وعليه، فإني أتصور ـ وأنا المواطن البسيط ـ أن الزلزال الذي ضرب تلك الاضرحة والزوايا ربما يكون قابلا للقراءة على أنه رسالة ميتافيزيقية إلينا جميعا كمغاربة لكي نتخلص من هذه الأضرحة والزوايا التي تسكننا. ولربما كان الأولى والأجدر أن تخصص المليارات المائة والثلاثة والعشرون لإنشاء أكبر مكتبة عالمياً في مراكش عوض أن تذهب إلى ترميم قبور لم يعد فيها من رفات ساكنيها إلا الهواء.
وكم كان سيبدو المشهد رائعا لو أن المبادرة كانت من إعلان نفس الوزير في إطار بناء إسلام معاصر يستوعب رهانات زمن الذكاء الاصطناعي، ويتصالح مع المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، ويشكل أساسا لتعزيز إسهامنا الحضاري كمغاربة في دعم السلم العالمية، ويقول للعالم أجمع بأننا الشعب الذي حول زلزالاً هدَّاماً إلى فكرة بنَّاءة لنا وللإنسانية بأكملها. وعوض أن تذهب المليارات لدعم زوايا أقصى ما تفعله هو “الشطحات” الشبيهة بحالة سعار جماعي، فقد كان قميناً بها أن تُوَجَّه، في إطار “مكتبة مراكش العالمية”، لدعم مشاريع بحثية تتوخى جعل الإسلام المغربي نموذجا عالميا في التسامح والتعايش ونبذ العنف والتطرف والإرهاب.
لا يعني ما تقدم بتاتاً أن لي مشكلة شخصية مع الزوايا والأضرحة. ولكن غياب مشكلة شخصية لا يعني انتفاء المشكلة الحضارية والثقافية والسياسية. وجوهر هذه المشكلة أن الزوايا والأضرحة، على امتداد تاريخنا، كانت وسيلة لنشر المخدرات على الحقيقة والمجاز معاً. فهي قد كانت، بالفعل، مجالا لتعاطي تدخين القنب الهندي وأصناف أخرى من “البَرْبُوقي” عبر التاريخ. وهي قد شكلت أيضا مجالا لاغتصاب المريدين المُرْد، أي المريدين الذين لم تكن لِحَاهُم قد نبتت بعد، حتى أن الإمام عبد الوهاب الشعراني ـ وهو بالمناسبة مغربي هاجرت عائلته إلى مصر ـ قد خصص لهذا الأمر حيزا مهما في كتابه “الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية”. ولم يكن ذلك مجرد عبث أو ترف من جانبه وإنما كان تعبيرا عن موقف من ممارسات متفشية وجدها أمامه خلال القرن الميلادي العاشر داخل الزوايا. وسواء تعلق الأمر بهذه الممارسات على حقيقتها، أو بالمخدرات الأيديولوجية التي قادتنا في الماضي إلى التخلف عن ركب النهضة الحديثة، أو بنظيرتها في الراهن، والتي تقودنا إلى مزيد من الجهل والتخلف والسلبية، فإن كل هذه الزوايا والأضرحة يجوز أن تُنْسَبَ اليوم إلى “ولي” واحد ووحيد هو “سيدي البربوقي” الذي يتباهى وزير الأوقاف بتخصيص 123 مليار سنتيم لإحياء سُنَّته. وليمُت مَن شاء بغيظه!