رُبَّما لم يُلتَفَت إلى أهمية الشعر، بالنسبة للوجود الإنساني، إلا عندما جعل منه مارتن هايدغر أفقاً أنطولوجياً لمٌجاوزة الميتافيزيقا ومُخاتلتها. وبقدر ما أَحْيَتْ فلسفةُ هايدغر مبحث الوجود، الذي كان على وشك الموت، فإنها رفعت الشعر من وظيفته التعبيرية المعتادة ليصير بديلاً للميتافيزيقا، أي – في نهاية التحليل – للفلسفة نفسها. فهو يمثل، بهذا المعنى، عودةً إلى الوجود الذي ارتكبت الميتافيزيقا، وفق المنظور الهايدغري، جَريرَة نسيانه.
غير أن المرحلة المعاصرة، أو لنقل بشكل أدق مرحلة الراهن كما يسميها بعض المؤرخين، لم تشهد العودة التي بَشَّر بها، أو نادى بها بالأحرى، فيلسوف الغابة السوداء نحو الأفق الشعري ولا نحو اللغة باعتبارها “بيت الوجود”. وظل الشعر على هامش الوجود الإنساني وأسئلته بينما ظلت الميتافيزيقا، في تجليها التقني، تزحف على الوجود إياه، ويزداد زحفُها خطرا في تظافرها الرهيب مع العلم وتحوُّلها، من خلال ذلك التظافر، إلى تكنولوجيا توشك اليوم أن تلغي الإنسان بالكامل في عدد من المجالات التي لم يكن يُتصوَّر فيها ذلك، وأن تحل كبديل عنه حتى في مجال الشعر نفسه. فالذكاء الاصطناعي اليوم صار بإمكانه، بكامل السهولة، تأليف النصوص الأدبية بما فيها النص الشعري.
وإذا كان التاريخ قد قضى بأن نعيش اليوم هذا الانتقال الخطير، وأن نرى الآلة تنظُم الشعر، وتكتب القصة، وتؤلف الرواية، فنحن لم نَرَ حتى الآن ـ بالمقابل ـ أي طفرة كمية في عدد النساء الشاعرات. وهو الأمر الذي دُرِجَ على تفسيره بغياب مساحة الحرية التعبيرية أمام المرأة في مجتمعات طغى عليها، تاريخيا، طابعٌ ذكوري لا مراء ولا جدال فيه. لكن الواقع والتاريخ معاً يقولان بأن تحرُّر المرأة في المجتمعات المتقدمة قد جعل منها كل شيء إلا شاعرة. فهي الطبيبة، والمهندسة، والعالمة، والسياسية، ورائدة الفضاء، و…لكنها ليست الشاعرة. وعلى الرغم من كل ما تتيحه الحياة المعاصرة للمرأة في المجتمعات المذكورة فالشعر يظل حالة رجالية بامتياز. ولا تكاد تظهر نساء شاعرات الا في ما قَلَّ ونَدَرَ من الحالات.
لا يمكن، بحكم عدم الاختصاص، أن أجازف بإصدار أي حكم يزعم العِلْمية في هذا الباب. لكن المقارنة بين المجالات التي اقتحمتها المرأة المعاصرة من جهة، ومجال الشعر من جهة أخرى، تسمح بالقول إنها مجالات علمية وعَمَلية في عمومها. فهي تبرع في الرياضيات، والفيزياء، ومختلف العلوم العقلية والتجريبية، وفي العلوم المرتبطة بالتكنولوجيا، وعلوم الفضاء، والطب، وعلوم الإدارة والتسيير، والدبلوماسية، وحتى في قيادة الطائرات الحربية الأكثر تطورا وإطلاق الصواريخ والقنابل المدمرة التي لا تُبْقي ولا تَذَر. لكنها لا تقول شعرا إلا على شاكلة “بيضة الديك”. ولو شئنا البقاء داخل النسق الهايدغري لجاز لنا القول إن المرأة أكثر ميلاً إلى الميتافيزيقا منها الى الشعر، وأكثر انجذابا إلى ما يهدد الوجود منها إلى “بيت الوجود”. إنها عقل عملي، تقني، أكثر منها حالة وجدانية شعرية. وكذلك كانت عبر التاريخ. فهي التي تدير شؤون البيت (بمعناه القديم) وتُدَبِّرُها من الناحية العملية رغم استئثار الرجل ـ شكليا ـ بسلطة الرئاسة في ما تسميه حنة أرندت ب”المجال الخاص” أو المجال “ما قبل السياسي”. وحتى في السياسة، أو ما تسميه أرندت ب”المجال العام”، فكثيرا ما كان الرجل مجرد واجهة لسلطة المرأة الكامنة في الظل. ولنا في التاريخ العربي الإسلامي مثالان ساطعان على الأقل: الخيزران زوجة الخليفة المهدي واعتماد الرميكية زوجة المعتمد بن عباد. أضف الى ذلك، في التراث الغربي، الملكة جونيييفر، زوجة الملك أرثور، كما تظهر في روايات الأدب الفرنسي الوسيط على الأقل. والأمثلة لا تقف بالتأكيد عند هذا الحد.
المرأة موضوعٌ للشعر لكنَّها ليست شاعرة إلا على سبيل الاستثناء. وهي موضوع للشعر، ربما، لأن طغيان عقلها العملي على وجدانها يجعلها تقصي كل رجل لا يتوفر فيه شرط المصلحة. وكان أولئك المقصيون، المهجورون، المُبْعَدون من جنة الروح ومن جنائن الجسد على حد سواء، هم الذين يصيرون في الغالب شعراء أو مجانين على امتداد التاريخ. وكثيرا ما كانت تجتمع في بعضهم الصفتان معاً: الشعر والجنون. فكأن الأفق الذي كان يدعونا إليه مارتن هايدغر، كبديل للميتافيزيقا، أي أفق الشعر، هو عينُه أفق الجُنون الذي كثيرا ما أنتجه في صُدُورِ الرجال صُدُودُ النساء. والمقصود بالصدود هنا ذلك العقل النسوي، العملي، الذي لا يؤمن بجدوى الشعر إلا في فلتات قليلة أو حتى أنها أقلُّ من القليل.
يقول تاريخ الشعر، من حيث هو تاريخ الوجدان الإنساني بامتياز، إن الرجال أكثر عاطفة من النساء وأن النساء أكثر عقلا وعقلانية من الرجال. فلم يكن العقل هو الذي يدفع الرجل إلى الموت تحت ضربات السيوف، وطعنات الرماح، دفاعا عن امرأة تنام في خبائها وتفتح فخذيها بكامل السهولة لقاتله من بعده. بل كانت العاطفة، والانفعال، والاندفاع، والتهور، هي التي تفعل ذلك بكل أولئك “الفرسان” الذين فقدوا حياتهم مقابل لقب “البطولة” المنسوج من وهمٍ أَوْهَنَ من بيت العنكبوت. لقد كانوا يموتون ويتركون وراءهم شعرا بينما كانت النساء تعيش من بعدهم ترف الحياة، وينعمن بالجنس، والأكل الباذخ، والشراب اللذيذ، واللباس القشيب، والزينة الفاخرة، ويُقال فيهن الشعر من طرف أغبياء آخرين مستعدين بدورهم للموت من أجلهن باسم “الفروسية”.
فكأن الشعر غباء. وكأن المرأة أذكى من أن تكون شاعرة!