مثل كثير من أبناء جيله، كانت لوالدي علاقة وطيدة بالمذياع. وكان يحرص على التنقل باستمرار بين المحطات الإذاعية العالمية لتتبع الأخبار. ولذلك كنت، رغم صغر سني آنذاك، مرغما على سماع أخبار ما يسمى ب”الثورة الإيرانية”. ومن كثرة تردد أخبار ذلك الحدث في البيت ما تزال ذاكرتي إلى اليوم تحتفظ بكثير من تفاصيله، من اندلاع شرارة الأحداث إلى انتحار شهبور بختيار، رئيس حكومة الشاه رضى بهلوي، ووصول طائرة الخميني إلى طهران عائدا من باريس تحت الحماية الفرنسية، وبمعية عشرات الصحافيين.
كنت في العاشرة من العمر. ولم أكن، بالطبع، أفهم ما كان يجري على نحو واضح. وظلت “الثورة الإيرانية” بالنسبة لي تتلخص في أن الناس في بلد اسمُه “إيران” ثاروا على مَلِكِهِم وأسقطوا نظام حكمه لأنه كان ظالماً، وأن الملك المخلوع فَرَّ في وقت ما إلى المغرب ومصر قبل أن ينتهي به المطاف في باناما. لكن السنوات توالت بسرعة ووجدت نفسي في أحضان حزب سياسي يساري استضاف في أحد مؤتمرات شبيبته زعيم حزب “تودا” الإيراني، واهتزت القاعة بشعار: “رغم الدم رغم القمع، تودا تودا لن تركع!”. ومن خلال التكوين السياسي والأيديولوجي الذي كنا نتلقاه داخل الحزب آنذاك، والذي كان يشرف عليه الراحل عبد الله العياشي، عرفتُ جرائم النظام الإيراني في حق عموم شعب إيران، وفي حق المعارضة السياسية، والأقليات الإثنية والمذهبية على الخصوص.
لم يكن الراحل عبد الله العياشي رجلا عادياً. فقد كان قامة سياسية من الطراز الرفيع، وكان، في الآن ذاته، موسوعة في التاريخ السياسي بحكم الأحداث الكبرى التي كان فاعلا فيها. لقد كان – مثالاً لا حصراً – هو المسؤول داخل الحزب الشيوعي المغربي عن عملية “آن ما” الشهيرة بتنسيق مباشر مع قائد الثورة الفيتنامية، هو شي منه، ومع القائد الميداني لجبهة الڤييت كونغ، الجنرال جياب، وكان بحكم موقعه وعلاقاته في صلب حركة التحرر الوطني. لكنه، بالمقابل، كان في منتهى التواضع. وكان تواضعه هذا هو الذي أتاح لي، ولعدد من أقراني داخل الحزب آنذاك، أن نحتك به وأن نجالسه دون أدنى شعور بالنقص. وربما لم أعرف عن جرائم النظام الإيراني من أي مصدر آخر بقدر ما عرفت من خلال السي عبد الله في جلسات تواضعه الجميل. فقد كان مُلِماًّ بمجريات الساحة الإيرانية بكثير من الدقة ناهيك عن قدرته الخارقة على التحليل السياسي.
وفي نهاية سنة 1994 دخلتُ رسمياً عالم الإعلام بصفتي صحافيا مهنيا في جريدة الحزب التي كان يديرها أمينُه العام، علي يعته. كنت إذاك أكتب ركنا يوميا بالصفحة الأولى من الجريدة. وخصصتُ الركن إياه في أحد الأيام للتعليق على حدثٍ ما في إيران. فلم يتأخر الرد الإيراني الذي جاء في نفس اليوم، وكان عبارة عن مكالمة من السفارة الإيرانية بالرباط تلقاها رئيس التحرير وقتها، السي أحمد بوكيوض شفاه الله، حَمَلَتْ تهديدا واضحا للجريدة ككل ولي شخصيا. وفي اجتماع هيئة التحرير قدم السي أحمد تقريرا عن المكالمة فغضب الراحل علي يعته غضبا شديدا. وكان من عادته أن يسألني عما أنوي كتابته في اليوم الموالي أو يقترح هو عليَّ موضوعا للمعالجة. فالتفت إلي كالعادة وسأل بلهجته الشمالية: “السي الوالي آش ماشي تعمل؟” وكان جوابي أنني سأكتب عن جريمة جديدة من جرائم النظام الإيراني. وضحك بعض الزملاء لأن ذلك كان عنوانا على “قسوحية الراس” من جانبي بينما نظر إلي الراحل علي يعته نظرة ذات معنى وقال بأن ذلك هو الرد الأنسب على مكالمة السفارة الإيرانية.
بعد ثلاثين عاما تقريبا من هذه الوقائع لم يعد النظام الإيراني يهدد جريدة مغربية، أو صحافيا مغربيا، وإنما أضحى يهدد المغرب والمغاربة جميعا عبر دعم عصابة البوليساريو الإرهابية. بل إنه أصبح يشكل تهديدا للسلم العالمية عبر سعيه إلى امتلاك السلاح النووي بطرق غير مشروعة. وصار النظام عَيْنُهُ حديث الصباح والمساء لدى جحافل المُغَيَّبين بفعل المخدرات الأيديولوجية. فمنهم مَن غدا يتوهم أن النظام الإيراني قادرٌ على إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة الأمريكية، ومنهم من نسج الأساطير عن قدرات ذات النظام من الناحية التكنولوجية، إلى أن جاءت حادثة سقوط المروحية الرئاسية لتكشف سوأة نظام العمائم دون أن تجود عليه السماء بغراب يعلم حلفاءه كيف يوارون سوأته التراب. فإيران التي تتنطع لمواجهة أقوى دولة في العالم لا تملك حتى مروحية مجهزة بمنظار للرؤية الليلية واضطرت لتتسولها من تركيا. والمسيَّرَة التركية هي التي حددت موقع حطام المروحية الرئاسية. والمروحية الرئاسية ـ أعزكم الله ـ هي مروحية من صنع أمريكي ومن طراز متقادم خرج من الخدمة منذ أربعين عاما! ولا شماتة في الموت!