الفائضونَ عن الحاجة

ظهر الوزير السابق، محمد زيان، خلال الأيام الأخيرة، محاطا بعدد من رجال الدرك وهم يقودونه إلى وجهة ما. وهي الصورة التي أثارت كثيرا من مشاعر الشفقة على شبكات التواصل الاجتماعي نظرا، أولاً، لسن الرجل واعتباراً، ثانياً، لوضعه كوزير سابق وكشخص خدم الدولة حتى قبل أن يكون وزيرا.
للفيلسوف الفرنسي، بليز باسكال، قولة شهيرة: “للقلب أسبابُه التي لا يعرفها العقل”. وهي القولة التي كثيرا ما تُستعمَل في تسويغ الإيمان الديني كما في تبرير الحب والعشق وما يرافقهما عادةً من “جُنُون”. وقد يجوز لنا أن نُسقط قولة باسكال هذه على الدولة فنقول: “للدولة أسبابُها التي لا يعرفُها القلب”. وذلك حتى يفهم الذين يطلبون الشفقة اليوم لمحمد زيان أن الدولة لم ولن تتصرف بالاحتكام إلى العاطفة. فهي ترى في محمد زيان واحدا من أبنائها الضالين، الذين جحدوا نعيمها وكَفَرُوا بنِعَمِها. ولها في ذلك كل الحق.
محمد زيان لم يكن معارضا ولا مناضلا في يوم من الأيام. فمنذ نشأته الغامضة في إسبانيا كطفل مسيحي يُدعى ڤيكتور مارتين، ويحظى برعاية الكنيسة، لا يوجد له أي أثر نضالي باستثناء فترة باهتة، ويكتنفها الغموض هي الأخرى، في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وحتى هذه الفترة الباهتة الغامضة فهناك من قال في وقت سابق بأنها كانت ذات محتوى غرامي أكثر من كونها فترة حضور نضالي داخل المنظمة الطلابية.
أما في ما عدا ذلك فزيان كان داخل حزب سياسي صنعه إدريس البصري وبَوَّأَهُ المكانة الأولى داخل الساحة السياسية ليصبح زعيمُه، الراحل المعطي بوعبيد، وزيرا أول في ظل سياسة التقويم الهيكلي التي أتت على الأخضر واليابس، وكانت من نتائجها الكارثية بطالة الخريجين، وأزمة السكن، وضرب مكتسبات الشعب في مجال الصحة العمومية، وتخريب التعليم، وإيصال المغرب ـ في آخر المطاف ـ إلى السكتة القلبية باعتراف صريح وعلني من الملك الحسن الثاني.
وفي مواجهة هذه السياسة كانت تنتصب إِذَّاك معارضة يسارية يتزعمها حزبُ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وكانت هذه المعارضة، على علاتها ورغم جميع نقائصها والاختراقات الحاصلة في صفوفها قيادةً وقاعدةً، تحتضن صوت الكادحين، المتضررين من السياسات اللاشعبية، وتعبر عنه. وكان لها، في الآن نفسه، امتدادٌ نقابي يتمثل في الكونفدرالية الديموقراطية للشغل، التي كان يتزعمها الراحل محمد نوبير الأموي عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
كان الأموي ـ مهما اختلفنا معه في التقدير السياسي لمعطيات المشهد المغربي آنذاك ـ معارضا شرساً، مندفعاً، حتى لا نقول إنه كان متهوراً. وكثيرا ما أُكِلَ بفمه الشوك والثوم من طرف الاتحاديين أنفسهم. ولذلك كان رأسُه السياسي مطلوباً. وهو الرأسُ الذي قُدِّمَ ملفوفاً في ورق جريدة “إلپاييس” الإسبانية من خلال تصريح ظل الأموي يصر على أنه تم تحريفُه أثناء الترجمة. ولم يكن محامي الحكومة ضد الأموي سوى محمد زيان.
لا أعرف إن كانت الصدفة وحدها هي التي جمعت جريدة إسبانية ومحاميا اسمه محمد زيان، وكان ذاتَ طفولةٍ مسيحيةٍ، إسبانياً هو الآخر يُدعى ـ كما تقدم الذكر ـ ڤيكتور مارتين. لكنهما اجتمعا معاً في محاكمة انتهت بسنتين حبساً نافذا في حق الزعيم النقابي محمد نوبير الأموي. وكان جزاءُ زيان منصباً وزارياً في الحكومة الموالية حيث صار ـ ويا للمفارقة! ـ وزيرا لحقوق الإنسان. ومن موقعه الوزاري هذا واجه زيان المعتقلين الذين كان قد تم الإفراج عنهم من جحيم تازمامارت الرهيب. وقال لهم على رؤوس الأشهاد بأنهم لا يستحقون أي تعويض من الدولة المغربية عن الانتهاكات الجسيمة التي كانوا ضحايا لها، وأن عليهم أن يحمدوا الله لأنهم خرجوا أحياء من معتقل سري قضوا في غياباته المظلمة ثمانية عشر سنة ونصف سنة، رغم أن أغلبهم كان محكوما بمدة أقل من ذلك بكثير.
غير أن زيان، الذي أنكر على هؤلاء المعتقلين السابقين حقهم الإنساني والقانوني في التعويض وجبر الضرر، أخذته النخوة دفاعا عن المهربين الذين كان إدريس البصري يشن عليهم حملة تطهيرية سنة 1996. واعتبر زيان حملة البصري على هؤلاء المهربين، الذين كان على رأسهم بعض أباطرة التهريب الدولي للمخدرات، انتهاكا لحقوق الإنسان وقال ذلك مباشرة على الهواء عبر القناة الثانية. وبقية القصة معروفة. فقد أرغم زيان على تقديم استقالته وتم وضعُه على الرف إلى أن طُلِبَ منه مرة أخرى أن يلعب دورا شبيها بدوره ضد محمد نوبير الأموي. وكان الدور هذه المرة ضد زعيم منظمة “إلى الأمام”، أبراهام السرفاتي، الذي تم ترحيلُه إلى الخارج بدعوى أنه برازيلي وليس مغربيا، بعد أن كان قد قضى في السجن أزيد من سبعة عشر عاما وصار مُقَْعَداً لا يفارق المَقْعَد المتحرك.
لكنَّ الدولة، في ظل العهد الجديد، اختارت أن تتخلص من ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ومن رموزه الذين كان زيان واحدا منهم. وهو ما لم يستوعبه هذا الأخير فسولت له نفسُه ابتزاز الدولة سياسياً، ولم يدرك هو وكثيرٌ من أمثاله أن دورهم قد انتهى وأنهم صاروا فائضين تماما عن الحاجة. وظن زيان أنه يكفي أن يلبس جُبَّة “المُناضل” لكي تخضع الدولة للابتزاز ويُسْنَدَ له دورٌ سياسي من جديد.
لعلها حكمة الأزمنة!
فقد قيل قديماً إن للسلطان مآلين لا ثالث لهما: إما إلى القصر أو إلى القبر. والسلطان ليس هو الحاكم بالضرورة. بل إنه كل مُتَطَلِّعٍ إلى السلطة. وكما قال زيان للمُفرَج عنهم من تازمامارت بأن عليهم أن يحمدوا الله لأنهم خرجوا أحياء، فعليه أن يقول لنفسه اليوم بأن عليه أن يحمد الله لأنه في السجن وليس في القبر. وتلك الأيام…

أضف تعليق