أخنوش ليس مَلاَكاً

المبادئ هي أكبر كذبة في السياسة وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالسياسة المغربية. وقد تعلََمتُ ذلك من طريقين اثنين: طريق الممارسة أولاً، وطريق الفلسفة ثانياً.
طبعا، لا أستطيع أن أجزم في أسبقية الطريق الأول على الثاني ولا في القول بالعكس أيضا. فأنا من مواليد السيتينيات، وعشتُ طفولتي في عقد السبعينيات، بكل ما يعنيه من احتقان سياسي في البلاد. وفي ظل ذلك الاحتقان كانت كلمة “السياسة” توشك أن تكون محرمة. وبما أن “كُلَّ ممنوع مرغوب” كما يقول الفقهاء، فقد ساهم ذلك التحريم في انتشار السياسة، وتفشَّت النكتة السياسية التي كانت بمثابة تنفيس عن القمع الذي كان مُسَلَّطاً على الجميع، وتعددت وسائل التعبير السياسي المستتر وراء الفن، والأدب، وغير ذلك. وكانت الفلسفة أيضا واجهة من واجهات التعبير السياسي غير المباشر. ولذلك يمكن القول إن جيلنا قد تلقى السياسة والفلسفة بالتزامُن سواء كان ذلك بوعي أو بدونه. وفي غمرة هذا التلقي كان الحديث عن “المبادئ” وعن “الالتزام” وعن “الأخلاق الثورية” عملة رائجة. بَيْدَ أن خيبتنا الكبرى كجيل، أو لنقل بالأحرى خاتمة خيبتنا، كانت مع نهاية التسعينيات عندما تهافت الجميع على المناصب والامتيازات، وتعرض الذين ظلوا يحملون وهم المبدأ للتصفية بأكثر الطرق قذارة ووضاعة.
كان الأمر شبيها ب”ليلة السكاكين الطويلة” على النمط المغربي. ودون أن تُراقَ قطرةُ دم واحدة تم “تطهير” الأحزاب اليسارية من كل المصابين بجرثومة “المبادئ” وڤيروس “الالتزام” ومتلازمة “الأخلاق الثورية” مقابل إغراقها ب”أفراس النهر” ومختلف أنواع الزواحف. فقد كان الزمن زمن الانتقال من عصر المناضل الذي يمشي “منتصب القامة” إلى عصر المرتزق الذي “يمشي على بطنه”!
في كل هذا لم يكن هناك ذكرٌ لاسم عزيز أخنوش. ذلك أنه كان من سكان الظل، بعيدا عن عالم الأحزاب السياسية ودسائسه، وعن كواليس العمل النقابي بما يحفُل به من تقنيات الضرب تحت الحزام، ولم يتمرَّس بهذه ولا بتلك. وهو ما عابَهُ (ويأخذه عليه حتى الآن) رئيسُ الحكومة الأسبق، عبد الإله بنكيران، الذي يتهمه بالافتقار إلى “التجربة السياسية”. وهو ما يؤاخذه عليه كذلك باقي خصومه إلى اليوم. فهو لا يتقن المراوغات السياسية، ولا يعرف كيف يخوض مقابلات البوليميك، وليس خطيباً ماهراً. وهو ـ فوق ذلك ـ واحدٌ من أغنى أغنياء البلاد ولن يخدم في النهاية سوى مصالحه ومصالح الطبقة التي ينتمي إليها.
لكنْ، هل يُعَدُّ عدمُ المرور من الأحزاب المغربية، بكل العفن الذي تغرق فيه، والقذارة التي تطفح بها، نقيصة في مسار رئيس الحكومة الحالي؟
صحيحٌ أن عزيز أخنوش قد جيء به ووضع على رأس حزب على طريقة المظليين. ولم يمر من التنظيم الحزبي بالتدريج، ولم يصارع ليكون كاتبا لفرع محلي، ثم ليكون بعد ذلك على رأس تنظيم إقليمي، وليصل أخيرا إلى زعامة الحزب. غير أن الذين مروا من هذه القنوات جميعها، في الأحزاب المغربية بشرطها الراهن، لم يجعل منهم ذلك سياسيين ناجحين بقدر ما جعل منهم “بَّانضية” و”شلاهبية” و”طَرَاطِرة مُبَرَّزين”. وهم إلى اليوم لا يتوانون في “التبرُّز” العمومي كلما وجدوا الفرصة السانحة لذلك. وقد رأينا كيف خرج شكيب بنموسى، حين كان يرأس لجنة إعداد النموذج التنموي الجديد، ليصرح بأن مقترحات الأحزاب في مشاوراتها مع اللجنة كانت عبارة عن إنشاء، أي عن ثرثرة، أو بالأحرى عن “طَرْطَرَة”. وليس عيباً في هذه الحالة ألاَّ يكون المرء خريج المدرسة “الطَّرْطُورية”. فالسياسة اليوم لم تعد شعارات وصراخا في مكبرات الصوت. بل إنها النجاعة في التدبير وابتكار الحلول للمشاكل الملموسة التي يواجهها المواطن والدولة على حد سواء.
وعليه، فتقييم الأداء السياسي لرئيس الحكومة ـ وللحكومة ككل ـ لا يتم انطلاقا من أكذوبة “المبادئ” ولا من أُزْعُومَة “الأخلاق” وإنما بالرجوع إلى الإنجازات التي تحققت على الأرض، وبالقياس إلى ما كان موجودا قبلها على الأرض أيضا. والذي كان موجودا طيلة عشر سنوات في ظل حكومتي بنكيران والعثماني هو تجميد الحوار الاجتماعي، وضرب الحق الدستوري في الإضراب عبر سن الاقتطاع من أجور المضربين، وتحرير الأسعار بما يعنيه ذلك من ضرب للقدرة الشرائية للمواطن الكادح، وتحرير أسعار المحروقات بقرار غير مدروس وغير مسؤول، وتهديد الموظفين من طرف بنكيران بتخفيض أجورهم عملا بقولته الرعناء “إيلا عاش النسر كيعيشوا أولادو”، دون أن ننسى الغائط الكلامي الذي كان يخرج من فمه بمناسبة وبدون مناسبة.
لا خلاف على أن أخنوش رأسمالي كبير، وبورجوازي لا يفكر سوى في الربح ومراكمة الثروة، وليس نبياً مُرسَلاً ولا مَلاكاً مُنَزَّلاً. فالسياسة لا يمارسها الملائكة. وكُلُّ سياسي شيطانٌ بالضرورة. لكن الشيطان الذي يحيي الحوار الاجتماعي أفضل من الشيطان الذي يجمده. والشيطان الذي يرفع الأجور خيرٌ من الشيطان الذي يهدد بتخفيضها. والشيطان الذي يَسْلَمُ الناس من لسانه أفضل من الشيطان الذي يؤذي لسانُه الجميع.
وحين نقول إن السياسي شيطان بالضرورة فالناخب ليس خارج نطاق الوصف لأن الاقتراع فعلٌ سياسي وليس “أكلة كسكس”. وحين أشارك في اختيار الحكومة فأنا أيضا شيطان بنفس المعنى، أو لنقل إنني شُوَيْطينٌ أتصرف أنا الآخر وفق مصالحي الفردية والطبقية. وحيثُما كانت مصلحتي فَتَمَّ صوتي. ومصلحتي، بالطبع، مع الشيطان الذي يحقق لي أكبر قدر ممكن من المصلحة. أما “المبادئ” و”الأخلاق” و”الالتزام” فالسياسيون عموما هم آخر من يحق له الحديث عنها. وعندما يتعلق الأمر بالسياسيين المغاربة، على الخصوص، فهم يعلمون بالضبط أين يمكنهم وضع “مبادئهم” و”أخلاقهم” و”التزامهم”! ومن لم يعرف أين يضعها فليتصل بي لأدله على المكان المناسب.

أضف تعليق