دانيال ليسَ نبياً

دانيال ليس نبياً، ولا قديساً، ولا رجُلَ دينٍ حتى.بل هو شاب إنجليزي لطيف جدا، من مدينة ليڤرپول حسب قوله، قادته الصدفة وحدها ليجلس بجانبي في أحد المقاهي بوسط المدينة. كان يستعد لإشعال سيجارته. ومن باب الأدب أراد أن يستأذنني. لكنه لم يكن يعرف ما إذا كنتُ أفهم ما يقوله. ولذلك سألني قائلا: “?English” وهو يحرك أصابعه قرب فمه في إشارة معناها ما إذا كنت أستطيع الحديث باللغة الإنجليزية.
أجبته بأنني أستطيع أن أتحدث لغته بعض الشيء. وبعد أن أشعل سيجارته وأخذ منها نفساً أخبرني بأنه زار في اليوم السابق مسجد الحسن الثاني. وأبدى إعجابه الشديد بالمسجد قبل أن يقول بأنه لاحظ أن المغاربة شعبٌ يعتز كثيرا بمغربيته، بينما لا يستطيع هو أن يعتز بكونه إنجليزياً. وحين سألته عن السبب أجاب بأن كل شيء في بلاده سيء من الصحة إلى التعليم مروراً بالإدارة. ثم أضاف بأنه هو وصديقه، الذي قال إن اسمه كريس، ينتميان إلى التيار الاشتراكي.
لا أشك في أن دانيال وصديقه يعرفان تماما أننا في مرتبة جد متأخرة على صعيد التعليم والصحة والإدارة بالمقارنة مع إنجلترا. ولا أعلم حتى الآن ما إذا كان حديثه عن اعتزاز المغاربة بأنفسهم، رغم ذلك، من باب الاستغراب أم من باب التهكم. ولم أحاول أن أعرف ذلك لأنه غير مفيد في الحالتين. لكنني قلت لدانيال بأنني أنا الآخر كنت اشتراكيا حين كنت في سنه، وأنني كنت صحافيا في جريدة ناطقة باسم حزب اشتراكي، لكنني الآن غير فخور بذلك ولا أعتز به مثلما لا يعتز هو وصديقه بكونهما إنجليزيين.
نظر إلي دانيال ببعض الاندهاش وقال بأنني كنت أتحدث الإنجليزية ـ في نظره ـ بشكل جيد. أما في نظري فلست مقتنعا حتى الآن بأن مستواي في لغة شكسبير على ما يُرام. ثم سألني عما يجعلني غير فخور بماضِيَّ الاشتراكي، فقلت له بأن أول ما يجعلني كذلك هو النتائج الكارثية لجميع التجارب الاشتراكية على صعيد حقوق الإنسان، والحريات العامة، الفردية والجماعية، ناهيك عن ممارسات الأحزاب الاشتراكية حتى إزاء مناضليها والعاملين في صُحُفِها. وبالطبع، فدانيال وصديقه لم يعترضا على ما قلته، وكانا متفقين معي تماما. وبعد دقائق ودعتهما متمنيا لهما مقاما طيبا في المغرب لأنني كنت مضطرا إلى الانصراف.
غير أن الفكرة لم تترك دماغي. وطفقتُ أفكر منذ تلك اللحظة في ما إذا كان هناك، بالفعل، أفقٌ اشتراكي ممكن بالنسبة للإنسان. فالواقع يقول اليوم، على الصعيد الكوني، بأن الليبرالية بشكلها الحالي تبقى أبعد ما يكون عن ضمان العيش الكريم لجميع البشر. وبصرف النظر عما إذا كانت الصحة والتعليم والإدارة كلها سيئة بالفعل في إنجلترا، كما قال دانيال، أو كان الأمر بخلاف ذلك، فإنها سيئة جدا في المغرب بكل تأكيد. وهي هناك وهنا من إنتاج نفس المنظومة الليبرالية الكونية التي تحكم العالم. بَيْدَ أن الاشتراكية لم تكن أكثر قدرة على ضمان تعليم جيد، ولا على توفير خدمات صحية جيدة، ولا على تأسيس إدارة جيدة. وما أزال أذكر إلى اليوم كيف كنت أقرأ وأعيد تقرير ميخائيل غورباتشوف لأحد مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفياتي وهو يتحدث عن “الكسل البيروقراطي” وعن انتشار الرشوة، والزبونية، وتردي الخدمات في جميع القطاعات بالاتحاد السوفياتي المنهار.
ربما كانت غشاوة الأيديولوجيا تحجُبُ الحقائق عن عيني آنذاك. وكثيرا ما تورطتُ، بفعل حماسة الشباب، في الدفاع عن ممارسات لا أملك اليوم إلا أن أدينها أشد الإدانة. ومن المؤكد أن الشباب الذين هم اليوم في سن دانيال يعانون من نفس المتلازمة التي كنتُ مصاباً بها في ذلك الوقت، وأن آليات الدعاية الرخيصة، والشحن الأيديولوجي الأخرق، تشتغل بجميع الوسائل لاسترجاع مقولات بائدة جوهرُها شيطنةُ كل ما هو ليبرالي في آخر المطاف.
أستطيع أن أقول بأنني كنت في شبابي قارئاً نَهِماً لماركس وإنجلز ولينين ولكل ما يمت بصلة إلى الفكر الاشتراكي. ولا يمكنني أن أنكر بأن تلك القراءات كانت لها فائدة معرفية عظيمة بالنسبة لتكويني. فوحده جاحدٌ من طراز رفيع يمكنه أن يتنكر لأثر أسلوب ماركس الساحر في بناء أسلوب قارئه، أو للغة مهدي عامل في تأسيس وشحذ القدرات اللغوية والأسلوبية لكل مَنْ يقرأ أعماله، أو لما سوى ذلك من الآثار الإيجابية معرفيا ولغويا وأسلوبيا لقراءة رواد الفكر الاشتراكي. لكني مع ذلك أتحفظ اليوم على فكرة الاشتراكية برمتها، وأرى أن أفضل نظام يمكن أن يعيش في ظله الإنسان هو الليبرالية الاجتماعية ذات الطابع الإنساني. أما الاشتراكية فهي لا تعدو كونها محض فرضية عقلية شبيهة ب”حالة الطبيعة” عند هوبز أو روسو، أو ب”الوضعية البدئية” عند راولز أو بما يسميه هذا الأخير أيضا “حجاب الجهل”. فهي، أي الاشتراكية، فرضية تسعفنا إلى حد كبير من الناحية الإبستيمية في فهم ميكانيزمات النظام الرأسمالي. لكنها لا تستطيع أن تكون بديلا عمليا للرأسمالية. بل ربما أذهب أبعد من ذلك لأقول بأن الماركسية هي أفضل نظرية علاجية للرأسمالية لأنها ـ ربما ـ أكثر النظريات السياسية والاقتصادية قدرة على تشخيص اختلالات الرأسمالية ومكامن ضعفها ونقاط قصورها. وربما تكون الماركسية ـ ويا للمفارقة! ـ هي أفضل وصفة لتقوية وتمنيع النظام الرأسمالي.
وسيكون من المفيد اليوم العمل على بناء نموذج لليبراليةٍ اجتماعية بجوهر إنساني في هذا المغرب الذي يعتز أهله بانتمائهم إليه حتى وإن كان مواطن إنجليزي يُدعى دانيال، على حد قوله، لا يعتز بانتمائه إلى إنجلترا. فقد يصدق في النهر ما لا يصدق في البحر. أما الديماغوجية التي تُمارَس باسم “الاشتراكية” فهي لم تنتج عالميا سوى الانهيارات والفظاعات، ولم تنتج وطنياً سوى أمثال إدريس لشكر و”نبيل ونبيلة”، أي أنها لم تنتج إلا جوقة من الطراطرة!

أضف تعليق