حْمِيدَة الستَّار!

لفظُ “حْميدة”، في العبارة التي تشكل عنوان هذا المقال، ليس تصغيرا لاسم “أحمد” كما هي العادة في اللسان المغربي. بل هي صفةٌ أبدعها الاستعمال في العقود الأخيرة، وأضحت تدل على “الغباء” و”البلادة”. وكذلك لفظُ “الستَّار”، الذي يصير في هذه الحالة صفةً للصفة، فهو يحيل على الرجل الذي يتزوج فتاة أو امرأة ثَيِّباً، أي فقدت بكارتها، لكي “يستُرها” – حسب اللسان المغربي دائماً – لأن فقدان البكارة يُعتبَر في العُرف الاجتماعي بمثابة “فضيحة”.
ومع ظهور وانتشار الشبكات الاجتماعية تم إنتاج عبارة “حميدة الستار”، أي الغبي، البليد، الذي يرضى بالزواج من فتاة فقدت بكارتها في علاقات جنسية سابقة مع “الأذكياء” الذين حققوا فتحا عظيما حينما نجح أحدهم في أن يخدع فتاة ويفتض بكارتها خارج الزواج.
لا داعي لأن نعيد هنا ما هو معروف ومستهلك ومبتذل. فغشاء البكارة علمياً هو مجرد نسيج خلوي قد يكون وقد لا يكون. وهو ليس إطلاقا بمثابة دليل على أن الفتاة لم تُقِم علاقات جنسية قبل الزواج. فالجنس يُمَارَس بطرق شتى. والطب يستطيع اليوم، بعملية بسيطة، ترقيع غشاء البكارة. بل إن هناك – كما يعرف الجميع – أغشية اصطناعية يمكن إدخالها في المهبل قبل ساعة تقريبا من الممارسة الجنسية، وتحقق نفس الأثر الذي يحققه الغشاء الطبيعي.
كُلُّ هذه السخافات لا تهمنا هنا. بل إنها لم تكن تهمُّ المسلمين ولا العرب في الماضي رغم أنها كثيرا ما تُبَرَّر اليوم بالقيم العربية أو بالمرجعية الإسلامية. والدليل على ذلك أن خلفاء وملوك المسلمين، وهم عرب بالطبع ،كثيرا ما كانوا يتزوجون الجواري. فالخليفة المهدي تزوَّج “الخيزُران” – وهي جارية أعتقها – وكان له منها ولداه، الخليفة موسى الهادي، والخليفة هارون الرشيد. والرشيد نفسُه تزوج “مَرَاجل” وهي جارية فارسية وكان له منها ولدُه الخليفة عبد الله المأمون. والمعتمد بن عباد، ملكُ إشبيلية الشاعر، تزوج “اعتماد الرُّميكية” وهي جارية وكان له منها جميع أولاده إلا واحداً. ولا داعي للتذكير بأن الجواري لم يكُنَّ عذراوات وكانت لهن سجلات جنسية حافلة، وغنية، ومتنوعة.
وبمقتضى هذا المنطق الأرعن، الغارق في التخلف، والذي يحكم اليوم تفكير فئات واسعة من الشباب مع الأسف، فإن مجتمعنا ـ وعوض أن يتقدم نحو الحداثة ـ يعود القهقرى ثقافياً ليصبح في عصر ما قبل الخليفة المهدي على الأقل. ذلك أن هؤلاء المسلمين والعرب الذين عاشوا قبل حوالي أربعة عشر قرنا كانوا، بكل تأكيد، أكثر حداثة في هذا الجانب من شبابنا الذي يعيش كرونولوجياً في القرن الحادي والعشرين بينها هو ذهنياً في القرن السابع.
وبناءً على ذات التفكير المريض فإن الخليفة المهدي لم يكن سوى “حميدة الستار”. ولم يكن ابنُه من بعده، الخليفة هارون الرشيد، الذي كان يحكم إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، سوى “حميدة الستار”. وبعد الرشيد فإن ابنُه، الخليفة عبد الله المأمون، الذي كان وراء عصر التدوين، وحَوَّلَ “بيت الحكمة” من مجرد مكتبة ملكية داخل القصر العباسي في بغداد إلى مؤسسة لترجمة وتدوين ونقل مختلف المعارف، لم يكن هو الآخر سوى “حميدة الستار”. وكذلك كان المعتمد بن عباد ومن بعده ابنه الذي تزوج جارية هو الآخر وأنجب منها ولدين. وبعد سقوط مملكة إشبيلية أخذت تلك الجارية المسيحية ولديها وذهبت إلى الملك ألفونسو الذي تزوجها وربَّى حفيدي المعتمد. ومن ذّيْنَك الحفيدين استمرَّ نسلُ المعتمد بن عباد في أوروبا وأعطى، من بين الذين أعطاهم، الموسيقار العالمي كلاوديو أبَادُو. (طبعا فاسم Abbado هو الصيغة الإيطالية لاسم “عباد”).
إننا أمام انتكاسة تربوية، وقيمية، لا تجعلنا متخلفين بالمقارنة مع العالم الغربي المعاصر فقط وإنما بالمقارنة مع السلف العربي الإسلامي نفسِه. وعوض أن يُنظَرَ إلى المرأة اليوم، في المجتمع المغربي، كشخص إنساني يُنظرُ إليها على أنها سلعة تفقد قيمتها بفعل “الاستعمال” مثل باقي السلع. وبذلك يتم تكريس النظرة الدونية إليها وإلى دورها ومكانتها. وبالمقابل تترسخ داخل المجتمع ثقافة ذكورية، ظلامية، تنتهي في آخر المطاف إلى استصغار الكائن البشري كيفما كان جنسُه لصالح رموز مُسْتَقْدَمَة من فضاءات غريبة تماما عن المجتمع المغربي وعن ثقافته وتاريخه. وعوض أن يتحرر المجتمع من الموروث السلبي فإنه يغرق في ثقافة النفاق، والخديعة، والكذب على الذات. فالذكر حين يمارس الفعل الجنسي يُعتَبَرُ ذلك “فَتْحاً مبيناً” بينما حين تمارسه الأنثى يعتبر الأمرُ “فضيحة”. وردُّ فعل الأنثى في هذه الحالة هو المخادعة والغش إذ تلجأ إلى عمليات ترقيع البكارة، وتستدرج ذكراً يعتقد أنه ذكي وأنه ليس “حميدة الستار”، وتوهمه ب “العفة” و “الطهرانية” ليعيشا معاً داخل أكذوبة. وفي حالات كثيرة تنكشف الأكذوبة وينتهي الأمر بمأساة اجتماعية. والسبب أننا لا نريد حتى الآن أن نتحرر من وهم “الطهرانية” الزائفة وأن نرى أن شرف المرء ليس في ما بين فخذيه، ولا في مؤخرته، وإنما في صدق قوله وفعله وعمله.
وما دام الأمر كذلك فسنظل محكومين بثقافة الدم والنزيف حتى إشعار آخر!

أضف تعليق