الحُبُّ والعِلَّة

ينقسم العالم عند أرثور شوبنهاور إلى جانبين، أو لنقل إلى عالمين: العالم باعتباره تَمَثًّلاً والعالم باعتباره إرادةً. الأول، أي العالم كتمثُّل، قابل لأن يصير موضوعاً للمعرفة، أو لما يسميه شوبنهاور “الوعي العارف”، بينما الثاني لا يمكن أن يصير موضوعاً لمعرفتنا، أي لوعينا العارف. وذلك لأن العالم باعتباره تمثلا محكوم بمبدأ عقلي هو مبدأ العلة الكافية، بينما العالم من حيث هو إرادة مُجَرَّدٌ من العلة.

يتطلب الأمر، دون شك، بعض التبسيط حتى يكون مفهوما بالنسبة للقارئ غير المختص. ولربما كان أول ما يستدعي الشرح هنا هو مبدأ العلة الكافية. والمقصود به ذلك المبدأ العقلي الذي يقول: “لا شيء يوجد دون علة كافية لوجوده”. فوجود شجرة في مكان ما معناه وجود تربة صالحة لينمو فيها النبات، ووجود بذرة، أو شَتْلَة، هي التي تحولت إلى شجرة، ووجود طقس ملائم لنموها وما إلى ذلك من العوامل التي تشكل، في آخر المطاف، ما يمكن أن نسميه “علة وجود” بالنسبة للشجرة. وحين ننتقل عقلياً من الموجود إلى علة وجوده فَذَاكَ هو الفهم، كأن ننتقل مثلا من وجود الماء إلى اجتماع ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأوكسجين في نفس الجزيء وهلم جرا. وعليه، فإن العالم القابل لأن نفهمه، ولأن نعقله، أي لأن نحوله إلى مفاهيم عقلية مجردة، وقبل هذا وذاك لأن نُحِسَّه، هو العالم كتمثل، أي العالم المحكوم بمبدأ العلة الكافية كما تقدم الذكر.

هذا العالم هو عالم الموضوعات، أو عالم الظواهر، كما يسميه أرثور شوبنهاور لأن كل موضوع هو، في الآن نفسه، ظاهرة وكل ظاهرة هي في ذات الآن موضوع. بَيْدَ أن الموضوعات توجد فيها قوة ما. وهي تستمر باستمرار تلك القوة، ثم تتلاشى وتزول بتلاشي تلك القوة وزوالها. وهذه القوة موجودة في الإنسان والحيوان والنبات والجماد على حد سواء. إنها قوة موجودة في العالم بأكمله باعتبارها قوة لاواعية، ولا يمكن أن تكون موضوعا لوعينا العارف، أي أنها لا يمكن أن تصير موضوعا لمعرفتنا المحكومة بمبدأ العلة الكافية. وتلك هي الإرادة.

تتجسد الإرادة عند الكائنات الحية باعتبارها “إرادة حياة” حيث أن الكائن الحي يتشبث عادةً بحياته، ويحرص عليها، ويدافع عنها. ثم إن هذه  النزعة هي التي تُتَرجَم كدافع جنسي يجعل الكائنات الحية تتوالد، وتتكاثر، لتستمر من خلال ذلك كأنواع. ومن المعروف أن فلسفة شوبنهاور هذه قد فتحت المجال أمام فيلسوف آخر، هو كارل فون هارتمان، ليكتب كتابه حول “فلسفة اللاوعي” ثم ساهمت بعد ذلك في تطور نظرية التحليل النفسي مع سيغموند فرويد في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وهو الأمر الذي تحدث عنه فرويد نفسُه في كتابه “فرويد متحدثا عن نفسه” ثم في مقالته الشهيرة “قلق في التحليل النفسي”.

وسواء في كتابه أو في مقالته فقد أكد فرويد أن الإرادة عند شوبنهاور تُعادل اللاوعي في التحليل النفسي. ولعل هذا يسمح لنا بأن نقول بأن اللاوعي، من وجهة نظر التحليل النفسي، محكوم بالطاقة الليبيدية من حيث هي ما يعادل “الحب” في اللسان العامي وفي القاموس الفلسفي على حد سواء. بمعنى أخر، فإن الحب يقع خارج مجال التمثل، أي خارج المجال الذي يحكمه مبدأ العلة الكافية. ولذلك فإن المحبين الصادقين، سواء كان موضوع الحب امرأةً أو وطناً، لا يستطيعون تبرير، ولا تعليل، حبهم رغم أنهم قد يموتون من أجل ذلك. وبالمقابل، فكل الذين يستطيعون تعليل “حبهم” لشخص، أو لمجال معين من مجالات النشاط الإنساني، أو لبلد، أو لفريق رياضي، أو ما سوى ذلك، ليسوا محبين وإنما هم أصحاب مشاريع. فكل شخص يقول بأنه “يحب” شخصا آخر لأنه جميل، وذكي، وطيب، و… ويريد الزواج منه لتلك الأسباب ليس محبا على الإطلاق. بل هو صاحب “مشروع زواج”. وهو يفكر في مشروعه بعقله ويرى مدى توفر المواصفات المطلوبة في الشخص المعني. وكل متبجح ب”الوطنية” يتظاهر ب”حب الوطن” لأن “الوطن” ـ حسب زعمه ـ يعطيه الأمان، ويمنحه الحرية، و… هو في الواقع صاحب مشروع سياسي مهما كان مشروعه صغيرا أو كبيرا. وسيتلاشى “حب الوطن” المزعوم بمجرد عجز الوطن عن توفير ما يعتبره “أمانا” و”حرية” وما شاكل ذلك. بل إنه قد ينقلب إلى ألذ عدو لوطنه إذا لم يعد يجد فيه مآربه. وكذلك الذي يستطيع تعليل حبه لشخص ما. فهو قد يصير ألذ عدو له بمجرد زوال ما كان يعلل به حبه المزعوم. ولذلك، ربما، أطلق أرسطو قولته البليغة: “مَن يستطيع الإفراط في الحب يستطيع الإفراط في الكراهية”.

ثمة صورة تجسد في نظري أسمى لحظات الحب. وهي الصورة التي يجلس فيها الشهيد أحمد الراشدي أمام طابور الإعدام داخل السجن، رافضا وضع العصابة على عينيه، بعد أن قال لجلاديه: “دعوني أرى سماء بلادي لآخر مرة”. فلو أن أحدهم سأل الراشدي في تلك اللحظة لماذا كان يريد أن يكون آخر ما يغمض عليه عينيه إلى الأبد هو سماء المغرب لما أعطاه تبريرا لذلك الاختيار. ذلك أن القوة التي كانت تدفعه إلى مواجهة فوهة البندقية، الطافحة بالموت، بعينين مفتوحتين على سماء البلاد غير قابلة للفهم، ولا للتفسير، ولا لأي تَجَلٍّ من تجليات المعرفة الإنسانية.

ليس الحب تمثلا بقدر ما هو اندفاع الإرادة في تدفقها نحو المحبوب. ولذلك، ربما، كان أفلاطون يربط الحب ب”الجذب”. فكل محب “مَجذوب” بالمعنى الصوفي. وكل مَن يستطيع تبرير الحب هو تاجر رخيص!

أضف تعليق