تاريخياً، ارتبطت السلطة السياسية في المغرب، طيلة المرحلة الإسلامية، بالدين من جهة وبالزوايا من جهة أخرى. فأغلب الأسر الحاكمة تنسُبُ نفسها للبيت النبوي. وحتى تلك التي لم تنتسب إليه بطريقة مباشرة فهي قد قامت في الأصل باعتبارها حركات دينية قبل أن تتحول إلى مشروع سياسي يتوخى الاستيلاء على السلطة السياسية كما هو الشأن بالنسبة لحركة المرابطين مثلا.
من هنا كان طبيعيا أن تنتشر الزوايا في البلاد، وأن ينتسب الناس للأولياء سعياً وراء اكتساب لقب “الشريف” الذي كان يعطي لحامله ـ وما يزال إلى اليوم ـ مكانة اجتماعية ووضعاً اعتباريا. ولأن فكرة الولاية ارتبطت هي الأخرى بفكرة “الكرامة” و”المَدَد” فقد تخصص كل ولي من أولياء المغرب، الذين يُقال إن عددهم يصل إلى مائة ألف، في كرامات وأمداد بعينها.
ففي الدار البيضاء يوجد الولي سيدي محمد “مُول الصبيان” الذي تقول الأساطير الشعبية إنه كان مختصا في طب الأطفال. وفي نواحي خنيفرة يوجد الولي مولاي بوعزة الذي افتتح مخبزة منذ زمن غابر وكان يمنح “الخُبْزَة”. وفي مراكش، وبالضبط في مكان كان يُدعى “قشِّيشْ”، يوجد الولي سيدي جابر “مُولْ الگنابر” الذي افتتح معهدا موسيقياً قبل الجميع وكان مختصا في تعليم المقامات الموسيقية بطريقة تطبيقية على آلة “الگنبري”. وفي أزمور يوجد الولي مولاي بوشعيب الشوفاني ولد السارية الذي كان مختصا في علاج العقم لدى النساء، وكان يهب لزائراته الذكور دون الإناث، فاستحق بذلك لقب “عطَّايْ لعزارة” إضافة إلى لقبه الأصلي الذي هو “الردَّاد”، والذي تحول إلى اسم يحمله العديد من المغاربة إلى يومنا هذا.
ولأن المغاربة شعبٌ يعشق الكوميديا السوداء، ويصنعُها، فهم لم يتورعوا في تسفيه هذه الأساطير الشعبية بواسطة النكتة. وهكذا رُوِيَ أن امرأة ذهبت إلى ضريح مولاي بوعزة، وانحنت عليه راجيةً إياه أن يمنحها “خبزة”، فجاءها من الخلف مَنْ أولج قضيبه فيها دون سابق إشعار وقال لها بأن الولي الصالح أصبح يعطي “الپاريزيان” عوض الخبز. وربطت النكتة بين “سيدي” جابر وغَيَلَم أمريكي حيث رَوَتْ أن غيلَماً مغربياً، أي ذَكَرَ سلحفاة، تسلل إلى سفينة أمريكية كانت ترسو في ميناء الدار البيضاء، وهو ينوي الهجرة سرا إلى الولايات المتحدة. وعلى متن السفينة وجد غيلماً أمريكيا جاء متسللا في هجرة عكسية من الولايات المتحدة إلى المغرب. وقد قال الغيلم الأمريكي لنظيره المغربي إنه جاء هارباً من كثرة التجارب التي تُجرى على السلاحف في المختبرات العلمية الأمريكية وينوي الاستقرار في المغرب. فقال له الغيلم المغربي: “إنك يا صديقي أتيت إلى بلاد سيدي جابر حيث سيُدْخلون عَصاً في مؤخرتك ويحولونك إلى گنبري”. أما الولي الصالح مولاي بوشعيب فقد اختصته النكتة بزائرٍ جاءه طلباً لمنصب شغل فقال له الولي من داخل قبره: “عندك الزهر”. وخرج من هناك يطير من الفرح وروى قولَ الولي لزوجته. فعاتبَته لأنه استعجل الخروج قبل أن يتم الولي كلامه وطلبت منه أن يعود. وكان أن قال له الولي في المرة الثانية: “عندك الزهر، لقيتيني تحت الحجر، أما كون نضت خليت دار بوك نوريك واش أنا لاناپيك”.
وبقدر ما كان الشعب يسخر من هذه الأساطير الشعبية، ويُسَفِّهُها بهذه النكت الجريئة والبليغة، فقد كان المنطق يقضي بأن يقود اليسار المغربي “ثورة ثقافية” في الاتجاه ذاته، تُفْضي إلى تحرير الوجدان الشعبي من الأوهام والخرافات. غير أن اليسار نفسَه ابتلعته الخرافة، وتحولت أحزابُه إلى زوايا، وصار زعماؤه بمثابة “شُيُوخ” يجُرُّون وراءهم بضع مئات من “المُريدين”. بل وفي كثير من الحالات فإن أعضاء قياديين في أحزاب يسارية انخرطوا بالفعل في بعض الزوايا، وشُوهِدُوا وهم يؤدون طقوس “الجذْبَة” دون أن يشعروا بأي تناقض أو جَفْوَة، أو فَجْوَة، بين مبادئ اليسار وثقافته من جانب وطقوس الزوايا من جانب آخر.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد وإنما رأى الناس، في زمن جائحة الكوڤيد 19، كيف أن زعيمة حزب يساري، يقال إنها تحمل درجة الدكتوراه في تخصص علمي، خرجت لتروي أمورا خرافية عن الجائحة وعن اللقاحات المضادة للڤيروس. بل ورأى الجميع كيف تم طرد عضو قيادي من ذات الحزب فقط لأنه انتقد تصريحات “الزعيمة” وقال بأنها غير علمية.
وبكل تأكيد، فتلك لم تكن الحالة الوحيدة التي يُطرَدُ، بل ويُضْطَهَد، فيها كلُّ مَنْ تجاسَرَ على رفع صوت مخالف لصوت “الزعيم” أو مختلفٍ عنه أو مَعَه. فلا صوت يعلو داخل أحزاب اليسار المغربي، بِمُتَيَاسِرِها ومُتَيَامِنِها، بمُتَطَرِّفِها ومُعْتَدِلِها، إلا صوت “الزعيم الشيخ” الذي يجتبي إلى جواره كُلَّ مُريد خانع مُطيع ويرمي إلى خارج الحزب كل مُمَانعٍ منيع، قبل أن يخرج ليطالب الدولة بمزيد من الحرية والديموقراطية، ويلعن الصهيونية والإمبريالية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ويرفع عقيرته مُتَغنِّياً ب”كفاح الشعوب”.
والواقع أن الدولة “الصهيونة” تدير شؤونها الداخلية وفق قواعد الديموقراطية، وتكفل لمواطنيها الحرية والكرامة الإنسانية تماما مثل الدول “الإمبريالية” بينما يتخذ “الزعيم” من مُريديه الطائعين الخانعين، ذكورا وإناثا وما بين هؤلاء وأولئك، “حريماً سياسيا” على الحقيقة والمجاز، فيعطي “الباريزيان” لمن يريد ويهب “لعزارة” لمن يريد أيضا حتى استحق ـ عن جدارة ـ لقب “مولاي ستالين الرداد”.
ولعلنا اليوم، إذ نتحدث عن أحزاب اليسار، لا نفعل ذلك إلا من باب المجاز أيضا. أما فعلياً، وواقعياً، فنحن أمام “زوايا” اكتسحها العَفَن وضُرِبَ عليها نسجُ العنكبوت منذ زمن بعيد!