خَيبَةُ المُناضل

منذ أن أبدع البعض تلك العبارة الغريبة التي تقول “لا مشاحة في الألفاظ” اختَلَطَ حابلُ اللسان بِنَابِلِ البيان. وفي سياق ذلك الاختلاط أضحى لفظُ “المُنَاضِل” يُطْلَقُ ـ هو الآخر! ـ دون تمييز بين حَابِلِ الشياطين ونَابِلِ الملائكة. والحال أن التمييز واجبٌ، وبمنتهى الدقة، بين المناضل والفاعل السياسي. فالثاني همُّه الأول والأخير هو الوصول إلى السلطة السياسية والتمتع بمَغَانِمِها. أما الأول، أي المناضل الذي يستحق ذلك الوصف بالفعل، فهو لا يعبأ بأي مَغْنَمٍ فردي لنفسه، ويكون اختيارُه من البداية إلى النهاية هو العمل الدؤوب على تحقيق، وتحصين، وتعزيز المكتسبات والحقوق المشروعة لأولئك الذين يناضل من أجلهم، بصرف النظر عن الخلفية الأيديولوجية التي تحكمُ سُلُوكَه.
المناضل لا تُغْريه المناصب الوزارية، ولا السفارات، ولا تهفو نفسُه للألقاب البراقة مثل “صاحب المعالي” و”صاحب السعادة” و”صاحب الفخامة” وما شاكَلَها. بل تجده يفر من ذلك، ويتحاشاه، ويجتنبُه كما يجتنب المؤمن الصادق كبائر الإثم. ذلك أن بريق المناصب لا يُخفي في الغالب إلا العَفَن، خاصة في الأنظمة المتخلفة، الغارقة في الاستبداد والفساد، والتي لا تكاد تخرج من مَفْسَدَةٍ إلا لتغوص في أكبر منها وأدهى. ففي مثل هذه الأنظمة لا يكون للنضال معناه إلا بمواجهة الفساد والاستبداد. ومواجَهَةُ الاثنين لا تتأَتَّى إلا بيدين نظيفتين وقلبٍ سليم. ولا نظافةً لليدين، ولا سلامة للقلب، إلا بالابتعاد عن دوائر الفساد واعتزالها حتى وإن صار النضال في هذه الحالة شبيها بممارسة صوفية. ذلك أن عزلة الصوفي، وخُلْوتَه بذاته ومعها وإليها، أحَقُّ بالمناضل من صُحْبَة الفاسد ومخالطة عديم الضمير.
غير أن المناضل مهما سَمَتْ نفسُه ليس فوق الخيبة والإحباط. وخيبتُه ليست على حَدِّ سيفِ الجلاَّد، ولا هي على حّدِّ سَوْطِ السجَّان، ولا هي في غَيَابَاتِ دهاليز التعذيب. ذلك أن كُلَّ هذا كثيرا ما يراه المناضلون أوسمةً على صُدورهم، ونياشين فوق أكتافهم، ومَعالِمَ ترسُم عبر سِيَرِهم مساراتٍ للذين يأتون بعدهم. بل إن خيبة المناضل الكُبْرَى تكمُنُ في جُحُود أولئك الذين ناضل من أجلهم حينما ينقلبون عليه، ويفعلون بلحمه ودمه ما لم تفعلهُ سيوف الجلادين، ولا سياطُ السجانين، ولا حَفَلاتُ الأقبية السرية. وبسبب هذه الخيبة الكبرى ضاع مناضلون أغرقوا ليلَهم ونهارَهم في النبيذ الرخيص وتحولوا إلى مدمنين على الكحول، وأسلم آخرون رئاتهم للدخان الرديء، ومات غيرُهم بأمراض غريبة لم تُصِبْ غيرَهم ولم يستطع حتى الطب أن يتعرف عليها في آخر المطاف.
هل ما يزال للنضال في هذه الحالة معنى؟
كلاَّ! فلا معنى لأن تحترق باسم النضال من أجل حفنة من الذين اختاروا أن يكونوا بلا كرامة، ولا ضمير، وهم أول مَنْ يغرز في ظهرك خناجر الغدر والخيانة. وهذا ليس على الإطلاق تقاعُساً عن واجبك النضالي بقدر ما هو من باب العدل والمعاملة بالمثل. فالذي لا يريد الكرامة لا يستحقُّها، والذي لا يفعل شيئا من أجل حقوقه ليس جديرا بها، والذي سيَخْذُلُكَ غداً قَمينٌ بأن تضحي به قبل شروق الشمس. وإذا كنتُ في الفقرات السابقة قد تناولتُ ببعض التفصيل ـ والتفضيل أيضا ـ ما يمكن أن يُعتبر نضالاً بنفحات صوفية كما تقدم، فما ذلك إلا لكي يرى القارئ أن هذا البعد ليس غائبا عن تفكيري. بل ربما عشتُه حين كنتُ لا أزال غِراًّ في عالم الفعل السياسي. لكني اليوم أرى، بمنتهى الأنانية، أن الأولى والأحق بهذا البُعد النضالي الصوفي هو ذاتُك. فكلما ابتعدت عن الحشد، والقطيع، والجوقة، ومجالس الثرثرة، ومقاعد النفاق، كُنْتَ مُنْصِفاً لذاتك ومناضلا من أجلها بما تستحق.
نعم، لن يتقبل صراحتي المُرَّة أحد. وسيتهمني كثيرون دون حياء بأنني أخدم “أجندات”، أو قد يقول قائل كالعادة إنني أطبل للمخزن، أو حتى للشيطان، أو أنني أدعو إلى “العدمية”. لكني ميزتُ منذ البداية بين المناضل والفاعل السياسي. ولا أتحدث هنا بحال من الأحوال عن الثاني الذي يجوز له تماما أن يمارس الخداع، والمناورة، ويسُوقَ القطيع إلى مَسَالِخِه، دون أن يشعر بأدنى قدر من الحرج. فذلك من صميم مهمته كفاعل سياسي. ومَنْ أراد ن يكون فاعلاً سياسياً فله ذلك وهو من حقه تماما. ويجوز له أن يُتاجر في القطيع السياسي كما يشاء. ولكنه يبقى، بالذات والصفات، على طرف نقيض تماما من المناضل. وعندما يتعلق الأمر بهذا الأخير فقد وجب القول بأن الأحقَّ بالمناضل نفسُه: ناضل من أجل نفسك وستنجح كما لم ينجح أحد من قبل! ناضل من أجلهم وسيبيعونك كما باعوا كل الذين من قبلك!

أضف تعليق