التقاعد العقابي

التقاعد، مبدئياً، هو المرحلة التي يتفرغ فيها الفرد لنفسه. فبعد عمر حافل بالعطاء المهني يستطيع، أخيرا، أن يفعل ما يرغب فيه، فيمارس هواياته المفضلة، ويقرأ الكتب التي تروقه، ويرتاح من عناء الشغل الإلزامي وما يرتبط به من متاعب وإكراهات.
وفي سن التقاعد يُفترض أن المجتمع يُكْرِمُ ويُكَرِّمُ الأدمغة والسواعد التي عملت من أجله طيلة عمر بأكمله، فيوفر لها الرعاية اللازمة، ويُسبغ عليها رداء التوقير والاحترام، ويُبقي عليها في الآن نفسه باعتبارها خبرات وكفاءات تظل رهن إشارته إذا ما احتاج إلى الاستعانة بها في مجالات عملها واختصاصها.
ومن هذا المنطلق تعمل المجتمعات التي تحترم نفسها على تكريم متقاعديها، وتوفر لهم وسائل الراحة والترفيه، وتتيح لهم فرص الاندماج في أنشطة ثقافية وفنية ورياضية واجتماعية كثيرة ومتنوعة.
أما في « أجمل بلد في العالم » فإن كل ما جاءت به الحكومات منذ سنة 2011، مع سيء الذكر المدعو عبد الإله بنكيران، هو ضرب مكتسبات المتقاعدين وحقوقهم، علماً أن فئات كثيرة كانت وما تزال أصلاً تتقاضى معاشات يخجل حتى القردة من ذكرها أمام أنفسهم في المرآة.
فعوض الرفع من المعاشات، وتوفير بنيات سوسيوثقافية وصحية للعناية بالمتقاعدين، عَمَدَ المدعو بنكيران إلى الزيادة في نسبة الاقتطاعات، ورفع سن التقاعد، وتخفيض المعاشات.
وهو نفس النهج الذي تُلَوِّحُ حكومة عزيز أخنوش، هي الأخرى، بالاستمرار فيه من خلال ما يتم ترويجه عبر الأبواق المأجورة، المسماة ظُلماً وبهتاناً ب «الصحافة»، حيث يتم تمهيد الميدان منذ الآن لفتح الملف ابتداء من شهر شتنبر القادم. ولا شيء في الأفق سوى الرفع من سن التقاعد إلى 65 سنة، والزيادة في حجم الاقتطاعات، والترويج لأطروحة تسقيف المعاشات بحيث لا تتعدى ضعف الحد الأدنى للأجور على الأكثر.
شخصياً، لم أكن أنتظر من شخص لا يعرف أبعد من التيمم والاستجمار، مثل المدعو عبد الإله بنكيران، أن يأتي بما يسرُّ الناظرين أو يطرب السامعين. وكنت وما أزال وسأظل أرفض لا فقط وصول ما يسمى ب “الإسلاميين” إلى المؤسسات وإنما أرفض وجودهم على الجملة، وأدعو إلى استئصالهم عن آخرهم، ووضعهم في المكان الوحيد الذي يليق بهم وهو جناح الأمراض النفسية والعقلية.
لكن، وبالمقابل، فقد كنت واحدا من الناخبين الذين صوتوا في الانتخابات الماضية ـ نكاية ب “الخَوَانِزَة” ـ لفائدة حزب رئيس الحكومة الحالي رغم أن ميولي السياسية كانت دائما نحو اليسار. وقد كنت أتطلع مثل غيري إلى أن يأتي رئيس الحكومة الجديد، بعقليته الاستثمارية والتدبيرية، فينتج حلولاً إبداعية لأزمة أنظمة التقاعد، تقوم على الاستثمار لا على اللجوء إلى المزيد من استنزاف جيوب الموظفين وسائر المأجورين. وإلا ما الفائدة من إزاحة القنافذ؟
نعم، إن صناديق التقاعد مهددة بالإفلاس. لكن أموال تلك الصناديق هي، أولا وأخيرا، أموال المنخرطين وليست أموال الحكومة. ولا يحق للحكومة أن تعامل المتقاعدين وكأنها تعطيهم الصدقة. بل أكثر من ذلك فإن الحكومة هي المسؤولة عن تدبير صناديق التقاعد وهي المسؤولة، تبعا لذلك، عن فشل تدبير تلك الصناديق. وعليها أن تتحمل مسؤولية سوء التدبير وأن تجد الموارد الضرورية لإخراجها من الأزمة وإنقاذها من الإفلاس. والمفروض اليوم أن يبادر رئيس الحكومة الحالي إلى إلغاء جميع التدابير المجحفة التي اتخذها ذو المعاشين، المدعو عبد الإله بنكيران، وأن يعيد إلى الموظفين وسائر المأجورين ما سرقه «ولد مفتاحة» من جيوبهم، لا أن يستمر على نهجه.
إن إصلاح نظام التقاعد يُفترض فيه أن يعكس روح مشروع الدولة الاجتماعية الذي أعلن عنه الملك. ولعل في هذه الروح ما يقضي بالتفكير في جعل نظام التقاعد بالمغرب نظاما وطنيا تضامنيا، تساهم فيه الأقطاب الاقتصادية الكبرى بالبلاد، والقطاعات الإنتاجية الأساسية، وتكتسي فيه مساهمة الموظف والأجير والحرفي البسيط طابعا رمزيا ليس إلا. فلربما يكفي تخصيص نسبة 1% من أرباح شركات مثل الخطوط الملكية المغربية، ومؤسسات مثل المكتب الوطني للسكك الحديدية، والمكتب الشريف للفوسفاط، والطرق السيارة بالمغرب، و… لإنتاج أحسن نظام تقاعدي في العالم. وهذا ليس عيبا، ولا حراما، وإنما هو يجسد صلب فكرة العدالة الاجتماعية كما تطورت في النظرية السياسية المعاصرة مع أشهر روادها : راولز، وأمارتيا سن، وبيرلمان، وغيرهم. ولا يقولن قائل إن هذا يتنافى مع جوهر الليبرالية. بل هو على العكس يشكل أكبر ضمانة للنظام الليبرالي. ذلك أن المواطن المطمئن على صحته، وعلى تقاعده، سيكون أكثر قدرة على الإنفاق، أي على الاستهلاك. وعلى العكس من ذلك فإن المتقاعد الذي يتقاضى ألف درهم شهريا ليس لديه ما ينفقه، وتكاد قدرته الشرائية تنعدم، ويقدم مثالا سيئا للآتين من بعده فيدفعهم إلى الادخار السلبي، ويحفز الكفاءات على الفرار نحو الهجرة، وما سوى ذلك من الآثار المدمرة التي تنتجها نفسياً واجتماعياً نظرية «التقاعد العقابي» التي جاء بها ذو المعاشين لا غَفَرَ الله له! ومن نافل القول إن الاستمرار في نظرية “التقاعد العقابي” سيؤدي سنة 2026 إلى التصويت العقابي.

أضف تعليق