الأمريكيون خائفون. فقد أظهر استطلاع للرأي، قام به معهد “كاتو” في العاصمة الأمريكية واشنطن، أن 74 بالمائة من الأمريكيين يخافون على حريتهم، ولديهم تخوفات جدية من أن المواطن الأمريكي سيفقد حريته ما لم يكن يَقِظاً بما يكفي. والقصة لم تنته بعد.
مناسبة هذا الاستطلاع هي ذكرى 04 يوليوز. وهي، بالطبع، ذكرى إعلان الاستقلال الأمريكي الذي كانت من مرتكزاته فكرة الحرية. وهو أمرٌ منطقي إذا علمنا أن رواد الاستقلال الأمريكي كانوا متأثرين بفكر الأنوار، بل ومنهم مَنْ كان مساهماً فكرياً في حركة التنوير.
غير أن هذه الخلفية الأنوارية لم تمنع من استمرار نظام الميز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية إلى حدود الستينيات من القرن الماضي. وعليه، فإعلان الحرية والمساواة كمبدأ دستوري، أو كأساس للاستقلال الأمريكي، لا يعني بتاتا أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت جنة للحريات، ولا هو يعني أنها اليوم كذلك، أو أنها ستكون كذلك في المستقبل. فالمواطن الأمريكي ليس مطمئنا على حريته، ويشعر أنه مهدد بفقدانها. وله في ذلك أسباب.
لقد تبين أن كثيرا من الذين شملهم الاستطلاع يرون أن رواد الاستقلال الأمريكي، أو الذين يسميهم الأمريكيون ب”الآباء المؤسسين”، لو كُتِبَ لهم أن يُبعثوا اليوم ليروا كيف يتم انتهاك الدستور لشعروا بالخيبة. ولذلك فالأمريكي اليوم يدعو نفسه ومُواطنيه إلى اليقظة حرصاً على حريتهم وحفاظاً عليها. وعندما يتولى معهد “كاتو” بالضبط أمر الترويج لهذه المخاوف فلذلك دلالات لا يمكن أن تخفى على كل من يهتم بالحياة السياسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية. ذلك أن معهد “كاتو” هو مؤسسة بحثية ليبرالية فكرتُها الجوهرية هي التصور الليبرالي للحرية سواء داخل الولايات المتحدة نفسها أو عبر العالم. والاستطلاع لا يعكس تخوفات المواطنين كأفراد بقدر ما هو يعكس تلك المخاوف الموجودة لدى خبراء المؤسسة البحثية ذاتها. وهو ما يجعل التساؤل مشروعاً عن أسباب ومبررات هذه المخاوف، وعما قد يكون كامنا وراءها من دوافع غير معلنة.
بالتأكيد، لا أزعم أنني في مستوى خبراء معهد “كاتو” من الناحية المعرفية. لكني أتصور أن الخوف على الحرية أمريكياً له دوافع تتجاوز حدود الولايات المتحدة وتهم العالم بأسره.
فمع انهيار الاتحاد السوفياتي، رسميا وبشكل كامل ونهائي، قبل ثلاثة وثلاثين عاما، خرجت شعوب الجمهوريات السوفياتية السابقة، وشعوب أوروبا الشرقية، التي كانت ترزح تحت حكم أنظمة كُلِّيانية تُحصي على الناس أنفاسَهم، لتطالب بالحرية والديموقراطية. وانعكس ذلك أيضا على صعيد ما كان يُعرف بالعالم الثالث. غير أن نسائم الحرية ما لبثت أن اختلطت بعواصف الغزو الأمريكي لأفغانستان بعد عقد من انهيار الاتحاد السوفياتي عقب أحداث الحادي عشر من شتنبر سنة 2001. ثم جاء الدور على العراق بعد سنتين من ذلك. ومع حرب أفغانستان والعراق (وقد تم خوضُهما معاً تحت شعار الدفاع عن “الحرية” و”تحرير الشعوب”) خسرت الولايات المتحدة الأمريكية صورتها. وعوض أن تظهر بمظهر القوة العظمى التي تدافع عن الحرية صارت بمثابة الغول الإمبريالي الجديد الذي يريد أن يبتلع العالم الثالث السابق ويفرض هيمنته على باقي المعمور. ولم تدرك الإدارة الأمريكية حجم الزلة إلا متأخرة جدا، فبادرت ـ بعد فوات الأوان ـ إلى وضع “برنامج تحسين صورة أمريكا في العالم العربي”، الذي كانت تديره كارين هيوز، والذي لم يحقق أي شيء عملياً، إذ أن ما كان قد كان، وصارت كلمة “الحرية” مرتبطة في أذهان شعوب “العالم الثالث” بفكرة الاستعمار الجديد. وكان كافيا، بالنتيجة، أن تتبنى الأيديولوجيات الكُلِّيانية، بتجلياتها الاشتراكية والإسلامية وغيرها، فكرة “المقاومة” لتجد صدى وتجاوباً كبيرا لدى الشعوب. وبذلك قدمت إدارة المحافظين الجدد، على عهد جورج بوش الابن، أكبر خدمة لجميع الأيديولوجيات المعادية للحرية.
لم أعد أذكر اسم كاتب سبق له أن قال، تعليقا على نتائج الحرب الأمريكية في فيتنام، بأن الغاية كانت هي “أَمْرَكَة ڤيتنام” لكن الذي حصل هو “ڤَتْنَمَة أمريكا”. ولربما يصدُق الأمر نفسه على ما حدث خلال الاثنتي عشرة سنة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، أي ما بين 1991 و2003. فعوض أن تنتشر القيم الأمريكية ـ كما كان يتوقع المحافظون الجدد ـ في العالم الإسلامي والمنطقة الناطقة بالعربية، عادت تلك القيم مهزومة إلى الولايات المتحدة أمام بنادق طالبان في أفغانستان وأمام رصاص وقذائف المقاومة العراقية بمختلف فصائلها. وبديهي أن الناس لا يعتنقون القيم المهزومة. بل إن الطبيعي في هذه الحالة هو أن تنكمش تلك القيم حتى في مهدها، وأن تصبح عاجزة حتى عن حماية نفسها داخل تربتها الأصلية، وأن يصبح القلق قائما حتى من احتمال انهيارها داخل الولايات المتحدة الأمريكية عينها.
هل معنى هذا أن الخطأ يكمن في فكرة الحرية ذاتها؟
كلا. فالقول بأن فكرة الحرية خاطئة لا يعني سوى القول بصواب نقيضها، أي بصواب الأيديولوجيات الكُلِّيانية التي تمثلها اليوم الصين بنظامها الشيوعي، وروسيا بنظامها المافيوزي، وإيران بنظامها الشيعي وتحالفاته مع مختلف فصائل الإرهاب الإخوانجي. ولا خيار سوى إعادة صياغة التصور الاستراتيجي لنشر قيم الحرية عبر العالم. ولعل شعور المواطن الأمريكي ـ حسب ما كشف عنه استطلاع معهد “كاتو” ـ بالخوف على حريته، ودعوته للعودة إلى القيم الأصيلة التي قام عليها الاستقلال الأمريكي، يمكن أن تشكل بداية جيدة في هذا الاتجاه. ولربما يمكن للولايات المتحدة أن تصحح أخطاءها السياسية وأن تستعيد ثقة النخب المتنورة عبر العالم. أما أن يكون هناك عالم معاصر دون قوة عظمى تحمي فيه الحرية فهذا معناه أننا نسير إلى عالم تحكمه الكُلِّيانية، أي إلى عودة العبودية بصيغة أخرى.