حياة المغاربة، في المدن الكبرى على وجه الخصوص، ليست على ما يُرام. والسبب يعود إلى فئة من البشر تُحَوِّلُ حياة الناس إلى جحيم. وهي الفئة التي أصطلح عليها هنا ب”الشمكارة”. وذلك علماً أن هذا اللفظ لم يعد هنا محصوراً في دلالته الأصلية الضيقة.
عندما ظهر لفظ “الشمكار”، في السبعينيات من القرن الماضي، فهو كان يرمز إلى فئة كانت تتعاطى التخدير عبر شم اللصاق الخاص بإصلاح عجلات الدراجات. وهي المادة التي تسميها دارجتُنا المغربية ب”السيليسيون”. وكان الذين يتعاطون تلك الآفة يخجلون من أنفسهم، وتجدهم يفرون من الناس ويلجأون إلى المساحات الفارغة، أو بعض البنايات المهجورة، أو ما شاكل ذلك. ورغم ذلك فكثيرا ما كانوا يتعرضون للتأديب من طرف الشرطة أو عناصر القوات المساعدة أو رجال وأعوان السلطة المحلية. ولأن ذلك النوع من التخدير يعتمد على الشم فقد اشتقت منه لفظة “الشمكار”. وكان أغلبُ “الشمكارة” في ذلك الزمن مُسالمين أو حتى أنهم كانوا هم الذين يتعرضون للاعتداء.
اليوم، لم يعد “التَّشَْمكُر” يقتصر على شم “السيليسيون” وإنما أضحت منتوجاتُه في غاية التنوع. ففيها “الدُّوليو” وفيها المزيج بين “الدُّوليو” وكحول الحريق وما لا تعلمون. ومثلما اتسعت قائمة المنتوجات التي تُستعمل في التَّشَمْكُر اتسعت دلالة اللفظ، فأضحى يوصف به كل شخص تجتمع فيه الأخلاق السيئة، والكلام القبيح، والأفعال المسيئة للناس والحيوان والجماد. وبذلك صار لدينا “شَمَاكِرَةٌ” يركبون سيارات يتعدى ثمنها أحيانا مائة مليون سنتيم، ويلبسون بذلات فاخرة، ويضعون عطورا من أشهر الماركات العالمية. وقد كانت لي الفرصة شخصياً لمعاينة حالة من هذه الحالات، قبل سنوات، في مكان ما بالدار البيضاء، عندما رفض أحدهم ـ وهو يركب سيارة من آخر صيحات ال مرسيديس ـ الامتثال لإشارة شرطي المرور. بل وبلغ به الأمر حد التهديد بدهس الشرطي الذي لم يكن يقوم إلا بواجبه المهني في توجيه حركة المرور. وذلك قبل أن يتضح أن المعني بالأمر يسكن فيلا مجاورة للمكان. وهي بالطبع واحدة من الفيلات الفخمة المنتشرة هناك.
لم يعد “الشمكار” هو ذلك الإنسان المُعدم، المقهور، الذي كثيرا ما يوصف بأنه ضحية للفقر والجهل. بل إن “الشمكار” في كثير من الحالات هو اليوم شخص يملك حسابا بنكيا سمينا، ويمارس أنواعاً من التجارة لا يعلمُها إلا هو وآلُه وصحبُه، ويرتدي من الأحذية الرياضية أصنافاً لا يمكن أن يحلم بها أجير أو موظف، وله من الخليلات ذوات الصدور الناهدة، والمؤخرات المستديرة، ما لم يكن يجده حتى بعض خلفاء المسلمين. وهو يتناول ما لذ وطاب من المشوي، والرؤوس المبخرة، وأسماك الله الحسنى، ويحتسي من الصهباء ألواناً ما رأتها عينٌ من عيون الكادحين، ولا سمعت بها أذن من آذان الشغالين، ولا خَطَرَت على قلب مثقف.
وفوق كل هذا ف”الشمكار” يتمتع في المغرب الراهن بحصانة عملية. فلا الشرطي يستطيع تأديبه، ولا الدركي يجرؤ على الاقتراب منه، ولا رجل السلطة يتجاسر على مناصبته العَداء. ذلك أن “الشمكار” اليوم هو في كل الاستحقاقات مفتاح الدوائر الانتخابية. وما من مرشح للانتخابات يمكنه أن يحلم بالفوز ما لَم يستعن ب”الشمكار”ومشتقاته من الشياشيين” (أي مدخني الشيشة) و”الأشاقفة” (أي مدخني القنب الهندي أو أصحاب “الشقوفة”) وباقي أصناف “الكُمَاة” (أي مدخني باقي الأصناف). و”الشمكار” ـ بحكم علاقاته المتعددة والمتنوعة والمتشابكة ـ يمكنه اليوم أن يرفع ويخفض كما يشاء. فهو الوسيط في أمر البناء غير القانوني، وقاعات الألعاب غير المرخصة في الأقبية، والمقاهي التي تُستعمَلُ فيها “المِمَصَّات”. وقد تجده يتدخل حتى في جمع الزبناء لخبراء “التنمية الذاتية”، وينظم الدخول والخروج لدى أهل الرقية الشرجية..عفوا، الشرعية.
“الشمكار” اليوم لم يعد ذلك الشخص ذا البُنيان الهزيل، الذي يمكن لأي مُتنَمِّر أن يصفع قفاه أو يرفس عجيزته. بل إنك تجده واسع الصدر، عظيم الكَفَّين، عريض المنكبين، وهو فوق ذلك لدى “أصحاب الوقت” قوي مَكين. وبما أننا على مشارف الربع الأخير من سنة 2024 فسنكون خلال خمسة أشهر من الآن أمام السنة التي تسبق الانتخابات. وسيخرج كل شمكار كان في حالة بَيَات وكل شمكارة كانت في سُبَات. وستتحرك الهواتف كالعادة، ويتحول كثير من الشمكارة إلى مدربين لكرة القدم في الأحياء، يُنشئون فِرَقاً للصغار وعيونهم على أصوات الكبار، وسيصير بعضهم بقدرة قادر صبَّاغين يتطوعون لطلاء الجدران وتزيين الأزقة والدروب، ويغدو آخرون منهم بُستانيين يغرسون الاشجار، ويزرعون الأزهار، ويصبح غيرهم أتقياء أنقياء أصفياء يلازمون بيوت الله في المغارب والأسحار.
وبعد كل هذا سيخرج، كالعادة، مَنْ يتساءل في بلاهة عن سبب نفور الطيبين الأخيار من السياسة وعزوفهم عن الانتخابات. ولا أعرف كيف يُنتظر من كل مَن يحترم نفسه في مغرب اليوم أن يحشر نفسه في انتخابات أصبح يتحكم فيها الشمكار. وقد رأينا جميعا كيف استعان زعيم أقدم حزب يساري في البلاد بجيش من الشمكارة لمنع مناضلي الحزب من دخول مقر حزبهم تحت شعار “وَرَّك على مُّو”. وليس الحزب المذكور، ولا زعيمه، حالة معزولة. ففي كل الأحزاب والنقابات رحل المناضل وبقي الشمكار، أو كما يجب أن نسميه على الأصح، وبالنظر إلى كل ما تقدم، “مولانا الشمكار”.