لا توجد قضية في فلسطين. بل يوجد شعب تاجر به الجميع، وزايد به وعليه الجميع، وباع الجميع دمه بثمن بخس. ووحده شعب فلسطين كان عليه أن يدفع الثمن الباهظ دائما!
لقد كانت فلسطين، قبل سنة 1920، ولاية عثمانية مثلها مثل جميع ما أصبح يُعرف في ما بعد ب”الدول العربية” باستثناء المملكة المغربية. فوحده المغرب كان دولة قائمة بذاتها، مستقلة عن النفوذ العثماني، مثلما كان قبل ذلك مستقلا عن الخلافة المشرقية في عصورها السابقة إلا في فترات قصيرة ومحدودة جدا. وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بدأ الغزو الاستعماري الأوروبي لمختلف مناطق النفوذ العثماني السابق. ثم تم لاحقاً إنشاء ما سُمي ب”الدول العربية” في المناطق الناطقة بالعربية من الإمبراطورية العثمانية المنهارة.
لا يتعلق الأمر هنا بدرس في التاريخ. والمعلومات التاريخية متاحة للجميع اليوم بكل تأكيد. لكن ما يهمنا هنا، في المقام الأول، أن إسرائيل نشأت بنفس الآلية التي نشأت بها “الدول العربية”. لقد أنشأها الاستعمار. فبريطانيا هي التي أنشأت السعودية ومملكة العراق ومملكة الأردن ومملكة مصر. وفرنسا هي التي أنشأت سوريا ولبنان. وبنفس الآلية تقرر إنشاء دولة إسرائيل وإلى جانبها دولة فلسطين. وتم تقسيم الأرض بين الطرفين بموجب قرار التقسيم المعلوم.
غير أن أمر تأسيس الدولة الفلسطينية لم يُترك للفلسطينيين. بل تدخلت “الدول العربية”، التي كانت هي نفسُها قد أسسها الاستعمار، لتعلن الحرب على دولة إسرائيل سنة 1948 بدعوى أن هذه الأخيرة هي “صنيعة استعمارية”. وكانت نتيجة ما سمي ب”حرب النكبة” أن إسرائيل احتلت نصف الأراضي التي كان قرار التقسيم قد أعطاها للفلسطينيين ليقيموا عليها دولتهم. أما النصف الثاني فقد احتله “الإخوة العرب” حيث استولت مملكة الأردن على الضفة الغربية واستولت مملكة مصر على قطاع غزة. والسؤال هنا هو: لماذا لم يعلن “الإخوة العرب” إذَّاك قيام الدولة الفلسطينية على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة؟
طبعا، فهم لم يفعلوا لأن غايتهم لم تكن إقامة دولة فلسطينية وإنما كانت اقتسام أرض الفلسطينيين التي تحولت إلى غنيمة. وبعد الانقلاب العسكري، الذي سًمِّيَ ب”ثورة الضباط الأحرار” في مصر، وصل إلى السلطة ضابط مصري يُدعى جمال عبد الناصر، والذي كان واحدا من الضباط المصريين المشاركين في حرب 1948. ولم يكن هذا الضابط البدوي قد نسي بعد أنه عاد من تلك الحرب جريحاً ومهزوماً فأعلن شعاره الغريب والعجيب: “إسرائيل إلى البحر”. غير أن إسرائيل لم تذهب إلى البحر وإنما احتلت الضفة الغربية، وقطاع غزة، ثم أضافت إليهما شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية. ولم يعد “الإخوة العرب” يطالبون بإزالة إسرائيل وإنما صاروا يتوسلون المجتمع الدولي لكي تعود إسرائيل فقط إلى حدود 1967، أي أنهم تنازلوا عن نصف الأرض التي كان قد خصصها قرار التقسيم للفلسطينيين لكي يقيموا عليها دولتهم المستقلة، والتي احتلتها إسرائيل كما تقدم القول خلال حرب 1948.
وبعد رحيل عبد الناصر خاض “الإخوة العرب” حرب أكتوبر 1973. وكان كل ما أنجزوه هو أن الجيش المصري عَبَرَ قناة السويس، وتوغل بعمق عشرة كيلومترات في شبه جزيرة سيناء، بينما تمكنت إسرائيل من التوغل أكثر داخل الأراضي السورية. ولم تسترجع مصر شبه جزيرة سيناء بالكامل إلا سنة 1982 بموجب معاهدة السلام التي أبرمها الرئيس المصري، محمد أنور السادات، مع إسرائيل سنة 1979. أما قطاع غزة فقد احتفظت به إسرائيل مثلما احتفظت بالجولان وسائر الأراضي المحتلة سنة 1967 والأراضي التي ضمتها قبل ذلك على إثر حرب 1948. بمعنى آخر، ف”الإخوة العرب” لم يحققوا من ثلاثة حروب سوى أنهم أضاعوا على الفلسطينيين حقهم المشروع في إقامة دولتهم المستقلة على الأرض التي خصصها لهم قرار التقسيم، والتي كان من الممكن أن تقوم منذ سنة 1948، وأن تكون عاصمتُها القدس.
لم تذهب إسرائيل إلى البحر. بل إن العلم الإسرائيلي ارتفع في سماء القاهرة أولاً، ثم رفرف بعد ذلك في عدد من عواصم “الإخوة العرب” بموجب اتفاقات التطبيع المتتالية. أما الفلسطينيون فقد ظلوا دون دولة، وتحولوا إلى بضاعة سياسية يتاجر بها الجميع بدءً بالقادة الفلسطينيين أنفسهم. تاجر بهم ياسر عرفات، الذي جاب العالم وهو يضع الكوفية على رأسه، ليترك لابنته الوحيدة، زهوة عرفات، ثروة تقدر بثمانية ملايير دولار. ثم وكأن كل هذا لا يكفي فقد ظلت زوجته، سهى عرفات، تتقاضى هي الأخرى مبلغ مائة ألف دولار شهريا من الخزينة الفلسطينية. وتاجر بفلسطين والفلسطينيين أيضا مارسيل خليفة، الذي طالما حمل الكوفية هو الآخر، ليراكم ثروة تصل إلى 18 مليون دولار. وتاجر بفلسطين والفلسطينيين كذلك محمود درويش، الذي عاش بالطول والعرض كما يعيش الوزراء، وجاب العالم هو الآخر، مرددا أن “أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا”. لكنه حين اشتد به المرض قصد أمريكا ومات في أحد مستشفيات هوستن، أي أنه ذهب ـ ويا للمفارقة !ـ يلتمس العلاج لدى “الطاعون”!
واليوم، دخل التاجر الإيراني هو الآخر على الخط لينال نصيبه من عائدات الدم الفلسطيني ويستعمل دماء أهل غزة كورقة ضغط للتفاوض حول برنامجه النووي وغيره من الملفات، ومن ورائه جحافل “الخَوَنج” وفُلُولُ “اليَسَرْج” التي لكل منها غايات وأجندات خاصة، تتنوع بين الأهداف الانتخابية والتجارة الرخيصة في القُماش الذي تُصنَع منه الكوفية نفسُها، وما يرافقها من أقمصة وصدريات وقبعات وغير ذلك. والكل يتم تحت شعار “القضية الفلسطينية” المزعومة بينما لا توجد في فلسطين، كما قلنا منذ البداية، أي قضية على الإطلاق. بل يوجد شعب ينبغي أن يكون سيد مصيره، وأن يُتركَ قرارُه له وحده وللشرعية الدولية. أما قطعان “الكوفيين الجدد” فهي لن تحقق للفلسطينيين أفضل مما جلبه عليهم “الإخوة العرب” منذ 1948. وهي لا تخدم الفلسطينيين في شيء وإنما تتاجر هي الأخرى بدمائهم لفائدة عمائم إيران وأذرعهم في المنطقة، علما أن النظام الدموي الإرهابي نفسه في إيران ليس سوى ذراع لحلفٍ شيطاني أكبر.