كتب أحدُ أصدقائي الفيسبوكيين منشورا قال فيه بأنه خسر، بسبب الحرب الحالية في الشرق الأوسط، عددا من أصدقائه. وفي نفس اليوم أعلنت الخارجية الصينية أن منظمة “حماس” ومنظمة “فتح” قد وقعتا على اتفاق سُمي إعلاميا ب”إعلان بكين”. وبموجبه ستنخرط حماس في حكومة “وفاق وطني” تتولى إدارة أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني بما فيه قطاع غزة.
وكالعادة، سوف يتولى كثيرون مهمة التهليل والتكبير، والتطبيل والتزمير، لهذا الاتفاق الذي سوف يوحد الفلسطينيين. ولا أحد سيكثرت بمنشور صديقي الفيسبوكي، المغربي، الذي خسر عددا من أصدقائه بسبب تباين المواقف مما جرى ويجري في غزة. ذلك أن كثيرا من المغاربة صاروا فلسطينيين أكثر من الفلسطيين، وحماسيين أكثر من حماس، ومنهم من أعلن صراحة أن المغرب لا يهمه، وأن الوطنية ليست سوى نوع من الوثنية، وأن الأهم هو “الدين” الذي تمثله في نظرهم منظمة حماس.
تاريخياً، نشأت حماس قبل أن تنشأ إسرائيل وقبل أن تكون هناك “قضية فلسطينية”. فهي قد تأسست في أواسط الأربعينيات، إبان الانتداب البريطاني، باعتبارها فرعاً لمنظمة “الإخوان المسلمين” التي كان مقرها ـ ولا يزال ـ في العاصمة البريطانية لندن. وظلت تعمل بصفتها جماعة “خيرية ودعوية” منذ ذلك الوقت، كما هو معروف لدى كل من يهتم بتاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، دون أن يطرح وجودها أي مشكل بالنسبة للسلطات الإسرائيلية. بل إن الحكومة الإسرائيلية كثيرا ما قدمت الدعم لتلك المنظمة “الخيرية الدعوية” واستعملتها في إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية ذات الصبغة العلمانية. ولم تظهر حماس بصيغتها الحالية إلا بعد يومين من انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أو ما عُرفَ حينها بانتفاضة الحجارة، سنة 1987. وهو تاريخ يطرح أكثر من علامة استفهام يمكن أن نعود إليها مستقبلا. غير أن الأساسي من كل ذلك هو أن “حماس” صارت منذ ذلك التاريخ ورقة على طاولة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهي ورقة لعبت على الدوام ـ عكس ما يعتقده المُنَوَّمون ـ لصالح إسرائيل وأطراف أخرى. ولم تقدم عملياً أي إنجاز لصالح الشعب الفلسطيني.
فبفضل حماس تم تجميد مسار أوسلو. وحتى نشرح الأمر بالخشيبات للذين يرون في حماس “ملائكة فلسطين” فلن ندخل في أي تعقيدات ولن نستعمل من الألفاظ إلا ما يفهمه الجميع.
لقد نصت اتفاقية أوسلو على إنشاء حكم ذاتي فلسطيني بناء على اتفاق مبدئي بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. وهذا الاتفاق المبدئي قوامه اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بحق دولة إسرائيل في الوجود واعتراف إسرائيل، بالمقابل، بالمنظمة ممثلا للشعب الفلسطيني، مع التزام هذه الأخيرة بنبذ جميع أشكال العنف والإرهاب. وعلى هذا الأساس ينشأ الحكم الذاتي الفلسطيني لفترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات، ليتم الوصول إلى وضع نهائي بناء على قرارات الشرعية الدولية، أي إلى إقامة دولة فلسطينية.
وفي هذا الوقت أعلنت حماس رفضها للاتفاق، ولوجود إسرائيل، واستمرارها في الحرب ضدها إلى حين تدميرها وإزالتها بالكامل، وإقامة الدولة الفلسطينية على مجموع أراضي سنة 1948. وبذلك وجدت إسرائيل الذريعة الكافية للتنصل من الاستمرار في المسار التفاوضي، وصولاً إلى استيلاء حماس على قطاع غزة خارج أي شرعية، وتحويله إلى قاعدة لإطلاق المقذوفات في اتجاه الأراضي الإسرائيلية، وانتهاءً بهجوم السابع من أكتوبر 2023 الذي أعطى لإسرائيل الذريعة لتدمير القطاع بأكمله.
ما الذي حققته حماس للشعب الفلسطيني في هذه الحالة؟ لا شيء إلا الدمار العظيم. وها هي بعد كل هذا تذهب إلى التفاوض على المشاركة في حكومة فلسطينية في ظل اتفاق أوسلو الذي ترفضه وتعتبره “خيانة”، وفي إطار الحكم الذاتي الفلسطيني، أي تحت سيادة إسرائيل التي لا تعترف بها وتدعو إلى تدميرها ومحوها من الوجود. أي تناقض أخرق هذا! وأين ذهبت يا ترى كل دعوات “الجهاد”؟ وما هي الصفقة السرية الكبرى التي كان ثمنُها كلُّ ذلك الدم الفلسطيني؟
لا نحتاج إلى عناء كبير لنكتشف معالم الصفقة إياها. بل يكفي أن ننظر إلى الجهة الراعية ل”الوفاق” الفلسطيني الجديد. إنها الصين التي تنافس الولايات المتحدة الأمريكية على زعامة العالم، والتي تقود الحلف المكون، بالإضافة إليها، من روسيا كعنصر رئيسي إلى جانب بعض الكراكيز من قبيل إيران وأذرعها في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، وكذا بعض المتمسحين بأذيالها في شمال إفريقيا. والصين لا تفعل ذلك إشفاقا على الفلسطينيين، ولا حقناً لدمائهم، وإنما لتحقيق اختراق سياسي ودبلوماسي على صعيد ملف الشرق الأوسط الذي ظل، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة وثلاثين عاما، بمثابة “صيد محمي” للدبلوماسية الأمريكية. وتلك كانت هي الغاية الأولى والأخيرة من الأكذوبة التي تم تسويقُها للمُخَدَّرين المُغَيَّبين باسم “طوفان الأقصى”.
إن كل الدم الذي اُريقَ على أرض غزة، وكل البيوت التي هُدمت فوق رؤوس ساكنيها، وكل الأطفال الذين نهشت الكلاب الضالة جُثتهم، كانت قرابين لكي تصل حماس مرة أخرى إلى الدخول في “حكومة وفاق وطني” فلسطيني خدمةً لهدف استراتيجي صيني ولمصالح إقليمية إيرانية. وبوجودها داخل الحكومة، دون أن تعترف بحق إسرائيل في الوجود، فإن إسرائيل لن تتقدم خطوة واحدة نحو مفاوضات الوضع النهائي، ليبقى الدم الفلسطيني مساحة للمزايدة بين التنين الصيني والفيل (أو الحمار!) الأمريكي إلى أجل غير مسمى.
وحتى إشعار آخر، سيظل شياطين فلسطين، من حماسيين وفتحيين وغيرهم، يختصمون ويتصالحون حسب ما تقضي به مصالحهم ومصالح حلفائهم. وسيخسر بعض المغاربة بعضا إلى الأبد، بسبب ذلك، كما حدث لصديقي الفيسبوكي وأصدقائه.