ماهيةُ الشيء معناها حقيقتُه الثابتة التي لا يمكن أن تتغير. وهي، بالطبع، واحدة من المقولات الميتافيزيقية التي أنتجها أفلاطون، واستمرت بعده إلى أن انهارت المقولات الميتافيزيقية الكبرى، ابتداء من القرن الثامن عشر، تحت مِعوَل النقد الكانطي، وتحطمت آخرُ شظاياها تحت مطرقة نيتشه.
وككل الكائنات، فالإنسان هو الآخر كانت له – في نظر الفلسفة – ماهيةٌ، أي حقيقة ثابتة لا تتغير. وعلى عكس العصر الوسيط، وقبله العصر القديم، اللذين حَطَّا معاً من شأن الرغبة، فقد خرج باروخ سبينوزا، في القرن السابع عشر، أي في بداية الأزمنة الحديثة فلسفياً، ليعلن أن الرغبة ماهيةُ الإنسان. بمعنى آخر، فالإنسان بالنسبة لسبينوزا له حقيقة واحدة، وحيدة، ثابتة، هي أنه كائن راغب.
ولعل إعادة النظر على هذا النحو في مكانة الرغبة من الوجود الإنساني قد شكلت واحدة من المقدمات التي مهدت، في وقت مبكر نسبياً، لتطور فلسفات اللاوعي، وبعد ذلك لظهور نظرية التحليل النفسي. ومع هذه الأخيرة تبين أن الإنسان، بالفعل، محكوم برغباته مع فارقٍ قد يكون أساسياً وهو أن الرغبة عند سبينوزا شهوةٌ واعية بذاتها، بينما هي في التحليل النفسي غير واعية. وفي مقدمتها تأتي الدوافع الجنسية التي أوجزها سيغموند فرويد في كلمة واحدة: الليبيدو.
تأسيساً على ما تقدم فكل إنسان بدون رغبة هو إنسان بدون ماهية. وغياب الرغبة قد يكون بفعل عوامل ذاتية، مثل الحزن الشديد، أو الإشباع المفرط، أو الملل وما شاكله. لكنه قد يكون أيضا لأسباب موضوعية عديدة، ومنها السبب الذي يهمنا هنا، وهو المتعلق بالمجال الذي يسمح بتصريف الرغبة والتعبير عنها. وحين نكون أمام الرغبة الجنسية بالتحديد فالمجال الأول الذي تتصل به هو المكان. والمكان الأول الذي يتبادر إلى الأذهان هنا هو السكن.
فكثير من الأسر تقيم في شقق اقتصادية يكاد المرء فيها إذا عطس أن يأتيه التشميت من الجيران. ولا يمكن أن نتصور في مثل هذه الحالة حياة حميمية كاملة بين الزوج وزوجته، خاصة حينما يكون الأبناء قد بلغوا السن الذي أصبحوا يدركون معه ما يحدث في غرف النوم. بل إن حال هذه الأسر يبدو باذخاً بالمقارنة مع أسر أخرى تكتري غرفة واحدة في الأحياء الشعبية داخل المدن، ناهيك عن تلك التي لا تزال إلى يومنا هذا، في مغرب المونديال والواجهة الأطلسية، والدرُون والأقمار الاصطناعية، تقيم في أحياء الصفيح.
لا يعني هذ أي تبخيس للمجهودات التي تم ويتم بذلها ولا للإنجازات التي تم تحقيقُها. لكن الإنجازات، مهما بلغت، تبقى دون قيمة إذا لم تنعكس على حياة الفرد وتُحَقِّقْ رفاهيته، حتى لا نقول سعادته. ورفاهية الفرد، أو حتى سعادتُه، تبدأ من حياته الجنسية. فمتى كانت تُحَقق له الإشباع والإمتاع كان مرتاحا وصار أكثر قدرة على الإنتاج. وعلى العكس من ذلك فكلما كانت حياتُه الجنسية بئيسة صار فريسة للمرض النفسي، وقد يقع ـ بوعي أو بدونه ـ في السلوك الجانح.
أجَل، هناك أفراد لهم القدرة على الإعلاء. وهؤلاء يُحَوِّلُونَ الحرمان الجنسي إلى أعمال إبداعية سواء في الموسيقى، أو الرسم، أو الأدب، أو غير ذلك من الأشكال التعبيرية. لكن الفنانين، والكُتَّاب، والفلاسفة، والذين في حكمهم، يظلون أقلية في مختلف المجتمعات والعصور. أما الأغلبية الساحقة فلا سبيل لها إلى تحويل حرمانها الجنسي إلى أعمال إبداعية. ولذلك فهي تحوله إلى دعاوى طلاق أمام المحاكم، وإلى جرائم غالبا ما تكون من أجل اسباب ظاهرية تبدو لنا تافهة، أو حتى إلى مشاركات هستيرية في بعض الاحتجاجات حيث يحتك “الإخوان” ب”الأخوات” و”الرفاق” ب”الرفيقات”، وتستبد الرغبة الشرجية بهؤلاء والرغبة القضيبية بأولئك، ويتحول الأمر إلى انفجار ليبيدي قد ينتهي بما يشبه “المساعدة على القذف”.
لقد راينا في الآونة الأخيرة كيف ثارت ثائرة بعض الأوساط بمجرد ما أعلن وزيرٌ في الحكومة أن طلب عقد الزواج من نزلاء المؤسسات الفندقية ليس قانونياً. وقد كان واضحا أن تصريح الوزير كان بمثابة محاولة للالتفاف على نص قانوني أصبح بلا معنى، وهو النص الذي يعاقب على العلاقات الجنسية الرضائية بين البالغين العاقلين تحت تسمية “الفساد”. والحال أن الدولة، عوض هذه الترقيعات، عليها أن تتحلى بالشجاعة السياسية اللازمة لإلغاء ذلك النص القانوني أولاً، لأن مراقبة الأعضاء التناسلية للمواطنين ليست من مهام الدولة. وقبل ذلك وبعده عليها أن تضمن لمواطنيها سَكَناً يسمح لهم بممارسة حياتهم الجنسية كما يجب. فالدولة ـ كما يعرف كل من قرأ سبينوزا وحتى الذي لم يقرأه ـ غايتُها هي الحرية. والحرية، حسب نفس الفيلسوف، هي التصرف وفق ما تقضي به الطبيعة. والطبيعة تقضي بأن يمارس الإنسان الجنس، أو “المومسيخة” كما تسميه اللهجة المغربية في بعض المناطق. وما لم يتحقق ذلك فإن ملايين المغاربة يظلون كائنات لا ماهية لها حتى إشعار آخر.