مضى على المغرب زمنٌ كانت فيه الصحافة الوطنية، بكامل توجهاتها، تنكب ـ عقب كل خطاب ملكي ـ على تحليل مضامين الخطاب. ولم يكُن يُعْهَدُ بهذه المهمة إلا للصحافيين الأكفاء، المتمرسين، الذين يملكون بالفعل أدوات التحليل ولديهم القدرة على فك الشفرات السياسية التي كانت تزخر بها خطابات الملك الحسن الثاني.
ولربما كان من المفارقات العجيبة، في ذلك الوقت، أن صحافة المعارضة كانت تبرع في تحليل مضامين الخطابات الملكية أكثر من صحافة ما كان يُعرف وقتها ب”الأحزاب الإدارية”، وأكثر من صحافة وزير الدولة مولاي أحمد العلوي الذي كانت تُوّقَّع الافتتاحيات باسمه رغم أنه لم يكن يكتب منها حرفاً واحداً. وهذا لم يكن بالأمر الغريب. فأحزاب المعارضة هي التي كانت تتجمع فيها الكفاءات آنذاك، وكانت تزخر بالمثقفين، والباحثين، والأساتذة الجامعيين، وغيرهم. وفي نفس الوقت كان الملك الحسن الثاني يشترك، بحكم نشأته إلى جانب أبرز قادة الحركة الوطنية، مع تلك الأحزاب في كثير من السياقات. وعلى الرغم من التباعد في الرؤى والمواقف فقد كان الملك يفهم أحزاب المعارضة مثلما كانت أحزاب المعارضة تفهم الملك. ولذلك كانت صحفها، وأقلامُها، أكثر قدرة على قراءة وتحليل الخطابات الملكية، والتعاطي معها، وخاصة في اللحظات الحاسمة ضمن التاريخ السياسي لمغرب الجمر والرصاص.
اليوم، لم يعد هناك رصاص ولا جمر. وفي نفس الوقت ـ ومهما كان المرء متطرفا ـ فلا أحد يمكنه أن ينكر أن مغرب الحاضر أفضل بكثير من مغرب الماضي. ففي سنة1999، عندما اختطف الموت الملك الحسن الثاني، كانت البلاد تعاني من شلل شبه كامل بلغ مشارف السكتة القلبية. وفي الآن نفسه كان الأداء الدبلوماسي باهتاً وكانت شِبَاكُ المغرب تتلقى الأهداف تلو الأخرى من طرف خصوم الوحدة الترابية. أضف إلى ذلك أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية كانت قد بلغت مداها. وكان الجميع ينتظر لحظة الانفجار الأخير الذي سيشكل الضربة القاضية.
لكنْ، بعد خمس وعشرين سنة من ذلك التاريخ، يقف المغرب اليوم وقد استعاد اقتصادُه جزءً من عافيته، وتَحَسَّنَ وضعُه السياسي والحقوقي بشكل كبير، وحقق انتصارات دبلوماسية لم يكن يتوقعها أحد، وأضحى قُطباً أساسيا على صعيد القارة الإفريقية، دون أن ننسى التطور الكبير الذي عرفته قواتُه المسلحة، ودون أن نغفل الإنجازات الرياضية التي تحققت أداءً وتنظيماً، وغير ذلك كثير.
وعلى الرغم من أن هذا لا يعني أن واقعنا قد أصبح لوحة وردية، فهو يعني أنه لم يعد بالقتامة التي كان بها قبل ربع قرن من الآن. وحتى الخطابات الملكية فهي لم تعد، خلافاً لما كان عليه الأمر في العهد السابق، تتحاشى الخوض في السلبيات ما أمكن. بل كثيرا ما كانت صراحةُ الملك مُتعبة للنخبة السياسية، والإدارة، وحتى لبعض الشركاء الخارجيين. ولربما قال الملك في ربع قرن ما لم تقله المعارضة قبل ذلك طيلة ما سمي بالمسلسل الديموقراطي”.
غير أننا، مع الأسف الشديد، افتقدنا تلك الأقلام التي كانت عقب كل خطاب ملكي تُبدع، وتُمتع، في تحليل الخطاب وربطه بالأسئلة والإشكاليات الكبرى التي تواجهها البلاد. وعوض التحليل أصبحنا نقرأ ما يكاد يشبه أهازيج “النگافات” في بعض الأعراس الشعبية، حتى أن الأمر تحول (كما حدث مع خطاب العرش الأخير) إلى طرائف وقفشات يتندر بها رواد مواقع التواصل الاجتماعي. فبدل التوقف عند المعضلة الكبرى التي تصدى لها الخطاب، والتي هي معضلة الإجهاد المائي، أصبحنا نقرأ أن الخطاب وردت فيه ست كيلوغرامات من حروف الجر، وسبع أوقيات من “كان وأخواتها”، وكيلوغرام واحد إلا ربع من النواسخ الفعلية، وما شاكل ذلك من السفاسف.
هل تحتاج البلاد اليوم إلى نگافات؟
وهل يحتاج الملك إلى مَدَّاحين؟
أستطيع أن أجيب باطمئنان عن الشق الأول من التساؤل، أي الشق الذي يهم البلاد، لأن لدينا ما يكفي من النگافات ولم أسمع قَطُّ أن مواطنا تزوج ووجد صعوبة في العثور على مَن “يُنَگِّفُه”. ولربما أستطيع أن أجيب باطمئنان أيضا عن الشق الثاني الذي يهم الملك. فأنا، بالطبع، مجرد مواطن بسيط ولا أعرف الملك كشخص. لكني أعرفه كأسلوب في الحكم طيلة ربع قرن. ومثل كل المغاربة فأنا أعرف أن الملك محمد السادس يعمل ولا يتكلم. وهذه الطينة من الناس عادةً تكره المديح والمداحين، والمتملقين، ولا يكاد يهمها ما يقوله الناس عنها. ولا أتصور أن الملك يريد إعلاماً تَكَسُّبياً ينشر المهاترات ويروج التخاريف. بل ربما كان الأفيد للملك (وأنا هنا أتحدث عن المؤسسة الدستورية لا عن الشخص) هو الإعلام الذي يكشف مكامن الضعف والقصور دون أن يقع في السلبية، والعدمية، والظلامية، ويتوقف في الآن ذاته عند الإنجازات فيُثَمِّنُها ويعمل على ترويجها، أو حتى على تسويقها سياسيا، بطريقة احترافية، دون أن يتحول إلى “نگافة”.
يحتاج الملك والبلاد إلى مَنْ يعمل، بما في ذلك داخل حقلنا الإعلامي الذي أضحى فقيرا، ضامراً، بئيساً، ينتج التفاهة ويضج ب… السفاهة!