جزيرةُ المَعيز

يوم 27 ماي 1873 رحل عن هذا العالم الشيخ رفاعة الطهطاوي، مخلفا وراءه إرثا تنويريا عظيما وأصيلا. فالرجل الذي تم إرسالُه ليقوم بمهمة محددة في باريس، تنحصر في التأطير الديني لبعثة طلابية مصرية، اندمج في المدنية الغربية، واستكنه روحها، واستوعبها، وأدرك أبعادها، ثم عاد إلى العالم الإسلامي ليبشر بها ويعمل على نشرها.

كان الطهطاوي يؤمن تماما بأن تيار المدنية الغربية جارف، ولن يكون من الممكن الوقوف في وجهها، ولا خيار بالتَّبِعَة إلا مسايرتُها والانخراطُ فيها. وتكاد تشعر وأنت تقرأ “الإبريز في أخبار باريز” بأن الشيخ رفاعة كان يدرك تماما النزوع الكوني للمدنية الغربية، أو حتى أنه كان يتنبأ بالعولمة القادمة بعد ما يقارب قرنين، أو يزيد عنهما، من زمنه.

أفكار الطهطاوي كان من الوارد بنسبة كبيرة جدا أن تنتشر في مرحلة ما يُصطلح عليه عادة بال”النهضة العربية”. وما كان لها، بحكم ذلك، إلا أن تفتح طريق التنوير، والتقدم، والحرية، أمام شعوب المنطقة الناطقة بالعربية. لكن قوى الاستعمار آنذاك لم يكن من مصلحتها أن تسير شعوب المستعمرات في نفس الطريق المفضي إلى التقدم، أي طريق المدنية الغربية، لأن ذلك كان (ولا يزال!) معناه أن تصير نِداًّ لشعوب الغرب المتقدم. ولذلك كان لا بد من مشروع نقيض، ظلامي، يقف في وجه المشروع التنويري الذي أطلقه الشيخ رفاعة الطهطاوي. ولم يكن هذا المشروع سوى الإسلام السياسي ممثلا في جماعة “الإخوان المسلمين”، التي احتضنتها القوة الاستعمارية الأولى، أي بريطانيا، وما يزال مقرها إلى اليوم في عاصمتها لندن.

على عكس مشروع الشيخ الطهطاوي، فالمشروع الظلامي للإخوان المسلمين، ولكل تنظيمات الإسلام السياسي التي جاءت بعدهم، كان ولا يزال هو رفض المدنية الغربية، ومقاومتُها بشتى الطرق والوسائل، من نشر الخرافات والأوهام إلى الأحزمة الناسفة وقطع الرؤوس في الساحات العامة، وبيع النساء في أسواق النخاسة، وما إلى ذلك من الفظاعات التي كان آخر الأمثلة عنها ما قام ويقوم به تنظيم “داعش” الإرهابي. والتصدي للمدنية الغربية، ورفضُها، معناه ـ بعبارة الشيخ الطهطاوي ـ الوقوف أمام “تيارها الجارف”. وعوض أن تساير شعوب المنطقة التيار، وتَسْبَحَ في اتجاهه مستفيدةً منه كقوة دافعة، فإنها منذ 1928 (على الأقل) وهي تسبح ضده. والسباحة ضد تيار جارف ليست لها، منطقيا، إلا نتيجة واحدة: الغرق! ولذلك فنحن نغرق في التخلف، والفساد، والاستبداد، ولا نكاد نرى علامات مضيئة في الرقعة الممتدة من المغرب إلى اليمن إلا في خطوط التَّماس الإيجابي مع المدنية الغربية، أي في المغرب بالتحديد، حيث سمح الاقتراب من ديموقراطية الغرب ومدنيته (رغم كثرة الأعطاب!) بتحقيق بعض الإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما باقي دول المنطقة، من الجزائر إلى اليمن، فهي تشكل جزيرة معزولة تماما عن المدنية الغربية وقيمها. وهي إما تحت حكم عسكري، أو تحت حكم عسكري بلباس مدني، أو غارقة في الفوضى والدماء، أو تحت أنظمة قروسطوية متخلفة مثل النظام السعودي الذي ما يزال إلى اليوم بدون دستور، مكتفيا بما يسميه “النظام الأساسي للحكم” الذي تم وضعه سنة 1992 من طرف لجنة برئاسة واحد من “الأمراء”.

هذه الجزيرة المعزولة تماما عن  المدنية هي التي أسميها هنا “جزيرة المعيز”. وهي، بالطبع، ليست جزيرة بالمعنى الجغرافي وإنما هي كذلك بالمعنى الثقافي. وليس المقصود ب”المعيز” شعوبُ المنطقة وإنما قوى الظلام والأنظمة الجاثمة على أنفاس الشعوب، والتي تنشر في الناس كل أصناف الخرافات، وتجعل العامة تركض وراء سراب “عودة الخلافة” و”وحدة الأمة” و”الصحوة الإسلامية” وما إلى ذلك من الأوهام.

لا يمكن لأي متنطع من القطعان الظلامية أن يدعي أنه عارفٌ بالدين أكثر من الشيخ رفاعة الطهطاوي. ومع معرفته العميقة بالدين فهو لم ير أي تناقض بين مقتضى الموروث الديني والحضاري للمسلمين من جهة والمدنية الغربية من جهة أخرى. وكان من شأن أفكاره أن تفتح، بالفعل، طريق النهضة الحقيقية أمام الشعوب المعنية. ولذلك فقد سارعت القوى الاستعمارية إلى طمسها وإقبارها. وعوض أن تكون أفكار الطهطاوي، الفقيه المتنور، هي المرجع فقد صار المرجع هو الأفكار الظلامية لحسن البنا وسيد قطب والذين من بعدهم. وتحول الإسلام السياسي إلى تنظيمات “جهادية”، أي إرهابية، تفرض ظلاميتها على الناس بقوة الديناميت. ولأن السحر لا بد أن ينقلب ـ ولو جزئيا ـ على السَّحّرة فقد نال مواطنو الغرب أيضا نصيبا من إرهاب الجماعات التي صنعتها، ورعتها، الأوساط الاستعمارية في دولهم. وإلى أن يجود التاريخ بطهطاوي جديد سيكون علينا وعلى العالم أجمع، دون شك، أن يتحمل الكثير من نَبِيب المعيز لعقود قادمة على الأقل!

أضف تعليق