زمنُ الغَوْلَمَة

في مناسبة سابقة، تناولتُ ما أسميه “سلطة الإيلاج” والتي يمكن ترجمتها إلى الفرنسية بعبارة “Le pouvoir de pénétration”. ومضمون الفكرة أن الذكر، لدى الإنسان ولدى أنواع أخرى كثيرة من الثدييات، لديه قضيب (Phallus) قابل للانتصاب، وبواسطته يستطيع أن يجامع الأنثى. وطالما أن الانتصاب حاصل لدى الذكر فهو يستطيع، إذا ما تُرِكَ الأمرُ للطبيعة وحدها، أن يغتصب الأنثى، أي أن يُخضعها لرغبته الجنسية حتى وإن لم تكن لديها، بالمقابل، الرغبة في إقامة علاقة جنسية. وعلى العكس من ذلك فالأنثى لا تستطيع القيام بالشيء نفسه، أي أنها لا تستطيع أن تخضع الذكر لرغبتها الجنسية ما لم يحصل لديه الانتصاب القضيبي.
هذا الاختلاف الطبيعي يعطي للذكر، موضوعيا، سلطةً قسرية على الأنثى هي التي أسميها ـ كما تقدم ـ “سلطة الإيلاج”. وهي في تصوري أصلُ جميع السلطات التي اكتسبها الذكر في مسار تطور النوع البشري، مثلما أنها الخلفية التي قام ويقوم عليها الفكر الذكوري منذ أن كان وإلى اليوم. وحتى إذا كان صحيحا أن الزمن المعاصر يرفض النزعات الذكورية المفرطة، ويقر بالمساواة المبدئية بين النوعين الاجتماعيين، أي بين الرجل والمرأة، فإن ذلك يبقى أمراً ثقافيا خالصاً.
بعبارة أكثر وضوحا، فنحن لا نرفض التمييز في حق المرأة من منطلق الطبيعة وإنما نرفضه انطلاقا من خلفية ثقافية هي، بالضبط، ثقافة الأزمنة الحديثة وما بعدها. ذلك أن الفكر الإنساني، منذ ديكارت على الأقل، قد تخطى فكرة التفاوت الطبيعي في القدرات العقلية بين البشر. وتخطى بالنتيجة ما كان يترتب عن تلك الفكرة الموروثة عن أفلاطون من حيف على الصعيد الحقوقي في حق المرأة كنوع اجتماعي.
غير أن ما تقدم لا يعني بحال من الأحوال تذويب الاختلاف الطبيعي بين الذكورة والأنوثة، ولا إلغاء الانعكاسات الثقافية والأنثروبولوجية للاختلاف إياه، على أصعدة التربية، والتنشئة، وأنماط السلوك، والموضة، وغير ذلك. فتمتيع المرأة بنفس الحقوق التي يتمتع بها الرجل لا يعني نهائيا تحويل المرأة إلى ذكر من الناحية الثقافية والأنثروبولوجية. وكذلك فإن تنشئة الرجل على تقاسم بعض المهام مع المرأة لا يعني تحويله إلى أنثى ثقافيا وأنثروبولوجياً. ويسهل أن نرى أن الحياة الطبيعية للنوع البشري (مع إيماني الراسخ بالتنوع الجنسي وبضرورة احترام الميول الجنسية للأفراد) قامت، في عمومها، منذ ملايين السنين على الاختلاف الطبيعي بين الذكورة والأنوثة، وهو الاختلاف الذي قام عليه جزء هام من الشرط الثقافي والأنثروبولوجي للإنسان أيضا.
لكننا، للأسف الشديد، نشهد في الآونة الأخيرة ما يمكن أن يكون تخريبا ممنهجا لهذا الشرط. فعلى صعيد الموضة مثلا أصبحنا نشهد طغيانا لنزعة “تحويلية” غريبة، حيث تتخذ ملابس النساء طابعا ذكوريا أكثر فأكثر، بينما تنزع ملابس الرجال أكثر فأكثر نحو الأنوثة. بل إن الأمر أصبح يتجاوز الملابس إلى الجانب الجسدي نفسه حيث أصبحنا نرى نساء ينصب اهتمامهن على تقوية السواعد، وعضلات الذراعين، والكتفين، ويقبلن على ممارسة الرياضات القتالية، وتجدهن في الشوارع يسرن بخطوات شبيهة ب “النظام المنظم” لدى الجيوش. وعلى الجهة المقابلة لم يعد من النادر أن نرى رجالا يهتمون بتكبير المؤخرات، وإبراز الأرداف، بل وحتى بوضع “نموذج تنموي” لما يشبه النهود على صدورهم. وعلى عكس المشية شبه العسكرية لأغلب فتيات اليوم نرى كثيرا من الفتيان ينتعلون ما يشبه الشباشب، ويتمايلون في مشيتهم، ويعيدون إنتاج سلوكات كانت ـ حتى عهد قريب ـ من تجليات الأنوثة وتمظهراتها.
طبعا، لست خبيرا في أي مجال علمي يمكن أن يفسر ما أراه. ولذلك فأنا لا أملك تفسيرا لما يحصل. لكني، رغم ذلك، أراه يحصل أمامي يوميا مثلما يراه كثيرون غيري دون شك. إن نساءنا يسترجلن ورجالنا يَتَغَوْلَمُون. ونحن نتفرج على ذلك بأعيننا البصيرة وتعجز عن تغييره أيدينا القصيرة. ونكاد نشعر بأننا أصبحنا غرباء في مجتمع لم نعد نعرفه وربما لم يعد هو الآخر يعرفنا. ولم يعد لدينا من يقين سوى واحد: إننا في زمن الغَولَمة. وأرجو ألاَّ يُفهم من كلامي هذا أنني ضد العولمة في شقها الإيجابي، الذي يفيد نشر قيم الديموقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، وحتى نشر اقتصاد السوق طالما يتم الحفاظ على الدور الاجتماعي لمؤسسات الدولة. لكن ما يجري لا يعكس الحرية بقدر ما هو يجسد حالة استلابية بامتياز. وتلك هي المعضلة!

أضف تعليق