كان كافياً أن يظهر الملك محمد السادس، أثناء استقباله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مستعينا بعكاز طبي، حتى تنفجر ألسنة الحقد والضغينة في الجارة الشرقية. وظهرت على منصات التواصل الاجتماعي كثير من المحتويات التي تبشر كل الحاقدين بموت الملك (هكذا!).
من جهة أولى فنحن نفهم مثل هذه التصرفات الرعناء لأننا عهدناها من قادة الجزائر أنفسهم. ولن نستغربها، بالنتيجة، من أبواقهم وأقلامهم المأجورة. كما أننا نتفهمها، من جهة ثانية، بارتباط مع زيارة الرئيس الفرنسي الذي أعلن من داخل البرلمان المغربي (وبكل ما يعنيه ذلك) أن فرنسا ترى أن حاضر ومستقبل الصحراء يوجد في إطار السيادة المغربية. وهذا معناه، بالطبع، أن كل ما بذلته الجزائر الرسمية من مال وجهد في حربها على الوحدة الترابية للمغرب يذهب الآن أدراج الرياح بعد أن أصبحت 112 دولة من دول العالم تؤيد مشروع الحكم الذاتي، وتعتبره بمثابة سقف سياسي لحل النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء. ومنها، بالطبع، دولتان دائمتا العضوية في مجلس الأمن الدولي هما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
ونحن نفهم، من جهة ثالثة، أن الجزائر التي كانت تتوهم أنها “قوة ضاربة” تعرضت لكل هذه الضربات القاصمة على الصعيد الدبلوماسي. وتعرضت، علاوة على ذلك لضربات قاتلة على الصعيد التنموي وهي ترى المغرب، الذي لا يتوفر على شيء من عائداتها الضخمة من البترول والغاز، يؤسس المشاريع الكبرى الممتدة من صناعة السيارات إلى صناعة الدرون، ويدخل طور التصنيع العسكري، ويمد شبكات القطار فائق السرعة إلى عمق الصحراء المسترجعة. وذلك في الوقت الذي يصطف فيه إخواننا الجزائريون في الطوابير من أجل الحصول على الخبز والحليب. فليس غريبا ـ بعد كل هذا ـ أن يتمنى حكام الجزائر وأبواقهم موت الملك الذي هَنْدَسَ كل هذا ويسهر عليه.
لكن حكام الجزائر وأبواقهم لا يفهمون أن ملك المغرب لن يموت. فالملك ليس شخصا ذاتيا وإنما هو مؤسسة دستورية تؤطرها أحكامُ الباب الثالث من دستور المملكة المغربية. وهي نفس الأحكام التي تؤطر انتقال عرش المغرب وتُؤَمِّنُ استمرار الملكية. وهذه أمور لا يفهمها حكام الجزائر ولا أبواقهم لأن الجزائر، بمنتهى البساطة، لم تكن يوماً دولة مؤسسات وإنما هي أكبر ثكنة عسكرية في العالم، يُحتَجَزُ فيها شعبٌ بأكمله منذ ما يزيد عن ستة عقود.
ومنذ أكثر من ستة عقود أيضا خاض المغرب تجربة بناء مؤسسات الدولة الحديثة. وهي التجربة التي لم تكن سهلة، وتطلبت كثيرا من المواجهات والتضحيات، لكنها ـ وهذا هو الأهم ـ قد نجحت في آخر المطاف ومكَّنت المغرب والمغاربة من العبور بسلام من عالم الحرب الباردة إلى ما بعده، كما أتاحت للبلاد استيعاب مخاض “الربيع العربي” قبل ثلاثة عشر عاما، وجعلت من المغرب واحة استقرار وأمن وسلام في منطقة تمزقها الحروب ويعصف بعدد من بلدانها الاقتتال الداخلي.
أما بالانتقال إلى شخص الملك نفسه، أي إلى الملك محمد السادس كشخص ذاتي، فحكام الجزائر وأبواقهم لن يفهموا أن ذلك المواطن المغربي، محمد بن الحسن العلوي، الذي شاءت الظروف أن يتربع على عرش المغرب، يمثل طموح وتطلعات جيل بأكمله. ولكن الأكيد أن أبناء هذا الجيل (جيل الستينيات من القرن الماضي) يشعرون بذلك في قرارة أنفسهم. ولأنني واحد من أبناء الجيل إياه فلا أزال أذكر كيف كان حلمُنا ونحن شباب أن نرى المغرب يصنع سيارة، وطائرة، ويمتلك ما تيسر من التكنولوجيا، ويصنع ما تيسر من السلاح. فقد كان التصنيع حُلماً بعيد المنال أو حتى أنه كان ضمن المُحال. لكننا كنا محظوظين لأننا عشنا حتى رأينا واحدا من أبناء جيلنا، هو الملك محمد السادس، يقود المغرب إلى تحقيق بدايات الحُلم. والأمرُ لا يقتصر على ذلك وإنما يمتد إلى كل أبعاد الثورة الصامتة التي قادها الملك طيلة ربع قرن ولا يزال يقودها حتى الآن رغم وضعه الصحي.
يُقال إن صحافيا سأل الزعيم الصيني ماو تسي تونغ عن عمره فكان جوابُ ماو: “العمر يُقاسُ بالأعمال لا بالأعوام”. ورغم أنني لستُ واثقا من صحة هذه القصة فهي تنطبق تماما على الملك محمد السادس وما قام به لفائدة المغرب. والأكيد أن التاريخ، بعد أن يمضي جيلنا إلى العدم، سيذكر طويلا تلك الثورة الصامتة التي قادها ملكٌ قليل الكلام كثيرُ العمل. أما الطراطرة فلا ذكر لهم ولا عزاء!