عبد المجيد تَبُّونه إي

لستُ من عشاق قراءة الطالع، ولا أومنُ على الإطلاق بسُوئه ولا بحُسْنِه، ولا أرى بتاتا أي مجال للمصادفات والعشوائية في العمل السياسي والدبلوماسي. لكني، مع ذلك، أسجل أن الاحتفال بالذكرى التاسعة والأربعين لانطلاق المسيرة الخضراء تَزَامَن مع إعلان فوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، بالرئاسيات الأمريكية، ومع فوز عريض لحزبه على صعيد المؤسسة التشريعية في بلاد العم سام.
وهذا التزامن، بالطبع، لا يعنينا إلا في حدود كون ترامب، خلال ولايته الرئاسية السابقة، كان أول رئيس أمريكي يعلن اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة المغربية على أقاليمنا الجنوبية المسترجعة. ومن المنتظر، بالنتيجة، أن يواصل الرئيس الأمريكي المنتخب العمل في الاتجاه نفسه خلال ولايته الجديدة. وهو ما يعني أن فوز ترامب يمكن اعتباره، من هذه الزاوية، مكسباً دبلوماسيا كبيرا لصالح القضية الوطنية باعتبار الولايات المتحدة ووزنها العالمي كقوة عظمى وكدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي.
في نفس الآن، لا يحجب عنا هذا المعطى الإيجابي، حدثاً آخر سلبياً. ذلك أن في شرق المغرب ثكنة عسكرية هي الأكبر في العالم، تتخذ من الناحية القانونية شكل دولة، قال رئيسُها (الشكلي هو الآخر) بأن الولايات المتحدة الأمريكية “تضرب لها ألف حساب”. وهو ما يعني أن علينا ـ ونحن لسنا بحجم الولايات المتحدة ـ ألاَّ نُسقط من حساباتنا ما يجري في هذه الثكنة. وما جرى هناك، في الأيام الأخيرة، لم يكن خافياً على أحد: إنه العرض العسكري الذي أرادت منه الثكنة الشرقية، المتاخمة للحدود المغربية، بتعبير أبواقها، أن تَرِيَنَا “العين الحمراء”.
طبعاً، فالعين الحمراء تعتبر من الناحية الطبية عَرَضاً مَرَضياً. أما في الثقافة الشعبية المغربية فهي تعتبر مؤشرا على “التبويقة”. ونحن نعرف منذ أن كانت تلك الثكنة على حدودنا الشرقية أن جميع العَسَاكِر الذين حكموها، ويحكمونها، “مُبَوَّقُون” على الحقيقة والمجاز. ولسنا في حاجة إلى عرض عسكري لكي نعلم ذلك. وحتى رئيسُها الشكلي، المدعو عبد المجيد تبون، فالمغاربة يتعاملون معه على أنه كائن “مُبَوَّق” يتحدث عن “زراعة الحليب” تارة، ويريد تحلية المياه بمقادير تؤدي إلى تجفيف البحر الأبيض المتوسط تارة أخرى. وتقوم استراتيجيتُه “التنموية”، في زمن الذكاء الاصطناعي، على زراعة “البصل والثوم”. وخُطبُه وحواراتُه تشكل مادة رائجة في صناعة “الطْرُول” السياسي بالشبكات الاجتماعية.
غير أنني لا أتردد مع ذلك في النظر إلى العرض العسكري التبُّوني نظرة جدية. وعلى عكس الذين اعتبروه مجرد “جوطية” أو “خردة سوفياتية” فإني أرى فيه رسالة سياسية من زاويتين: توقيته وشكله. فمن حيث التوقيت اختار عَساكِرُ الثكنة الشرقية أن يكون عرضُهم متزامنا مع زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للمغرب. وهي الزيارة التي أعلن خلالها الموقف الفرنسي تُجاه قضيتنا الوطنية، والذي يعترف بأن حاضر أقاليمنا الجنوبية المسترجعة ومستقبلها لا يمكن أن يكون إلا في ظل السيادة المغربية. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار العرض العسكري للثكنة الشرقية رسالة مضادة، مضمونها أن الموقف الفرنسي المساند للمغرب يُقابلُه استعداد الثكنة الشرقية لإعلان الحرب مباشرة على المغرب، أو في أقل الأحوال وضع إمكانياتها العسكرية، بشكل أكبر، رهن إشارة جمهورية “صَنْدَلِسْتان” القائمة على أرضية السَّرِية الجنوبية الغربية (La compagnie du sud-ouest) من الثكنة الشرقية. أما من حيث الشكل فإن العرض حاول ـ دون أن ينجح في ذلك بالطبع ـ تقليد الاستعراضات العسكرية التي دأبت إيران على إقامتها. ولم تكن تنقص الرئيس الشكلي للثكنة الشرقية، المدعو عبد المجيد تبون، إلا اللحية البيضاء والعمامة السوداء ليصير هو الآخر، ولو بطريقة غير رسمية، “سماحة السيد عبد المجيد تّبُّونه إي دام ظله” على منوال وشاكلة “سماحة السيد علي خامنه إي دام ظلُّه”.
ولعل القارئ سيلاحظ أنني أوردتُ العبارتين أعلاه دون أدنى تحفظ يُذكر. وبالفعل، فليس لي أي تحفُّظ أو اعتراض على عبارة “دام ظلُّه” سواء في حق المرشد الأعلى لجمهورية العمائم أو في حق أُمْسُوخِه (Son simulacre) على صعيد الثكنة الشرقية. فهما معاً ليسا أكثر من ظِلَّيْن لنفس الشيطان: شيطان الإرهاب، وقهر الشعوب، وإعدام المعارضين، وصناعة المآسي والموت. أما المغرب فهو قد دخل السنة الخمسين من وجوده في صحرائه ووجود صحرائه فيه. والعالم يعرف أن ما تحقق من منجزات تنموية في الأقاليم الجنوبية المسترجعة وحدها، خلال ربع القرن الأخير وحده، يفوق بكثير ما حققته الثكنة الشرقية خلال اثنتين وستين سنة من وجودها. والظلال، في كل الأحوال، لا تدوم. وتقتلها الظُّلمة كما يقتلها الضياء.

أضف تعليق