ما كاد خبرُ الاعتداء الهمجي على الدكتور سعد الدين العثماني يصل إلى الناس حتى هبَّ الجميع للتعاطف معه، والتعبير عن التضامن، وانتشر وسمُ “كلُّنا سعد الدين العثماني” على مواقع التواصل الاجتماعي. وارتفعت أصواتُ الإدانة للتصرف الهمجي ل “الكوفيين” من جميع المشارب الفكرية والسياسية.
لقد اجتمع عند العثماني ما تفرق عند غيره. وتخطى التعاطف مع رئيس الحكومة السابق حدود الانتماءات السياسية، وخطوط الاصطفاف الأيديولوجي، دون أي اعتبار لكون الرجل واحدا من قادة التيار “الإسلامي”. ولم تتوقف، إلى حدود كتابة هذه السطور، موجة التعاطف والتضامن. بل من المنتظر أن تتسع الموجة أكثر خلال الأيام القادمة. وقد تستمر أسابيع أو حتى شهورا أخرى قادمة.
ولعل هذا يدفعُنا إلى التساؤل عن الأسباب التي جعلت المغاربة يتعاطفون مع هذا الرجل بالذات ضد البلطجة التي مارسها “الكوفيون”.
طبعاً، يعود جزء من هذا التعاطف العارم لطبيعة الرجل نفسه. وقد كنتُ من الأوائل الذين عبروا عن تعاطفهم وتضامنهم معه لهذا السبب بالذات لأنه ـ وكما ذكرتُ ذلك في تدوينة سابقة ـ كان أستاذا درَّسني مادة أصول الفقه في القرن الماضي قبل أن أتجه لدراسة الفلسفة. وآنذاك، ورغم أننا كنا طلبة يساريين، ونشطاء في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ورغم أن الدكتور العثماني كان حينها معروفا كواحد من قياديي “الإسلاميين” الذين كانت لنا معهم مواجهات مشهودة داخل الساحة الجامعية، فقد كانت أخلاقُ الرجل، وابتسامتُه في وجه الجميع، تُكسبُه المحبة والاحترام من طرف الكل رغم الخلافات السياسية والأيديولوجية.
لكن الدكتور العثماني غادر المشهد السياسي العام عقب انتخابات 2021 بعد الهزيمة النكراء لحزبه في ذلك الاستحقاق. وكان المنطقي، بعد ذلك، أن يفقد أي تعاطف شعبي. بَيْدَ أن العكس تماما هو ما يحدث الآن. والسبب في تقديري يعود إلى أن الدكتور سعد الدين العثماني تعرض لما تعرض له بفعل توقيعه كرئيس للحكومة آنذاك على الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل. وإذ تهبُّ مختلف الأطياف السياسية والأيديولوجية للتعاطف معه اليوم، فمعنى ذلك أن المغاربة ليسوا ـ كما يتصورهم البعض ـ شعباً ساذجاً من الناحية السياسية.
أما كان جديرا بكل هذه الأطياف السياسية، وبعامة الناس، الذين يتضامنون اليوم مع الدكتور سعد الدين العثماني، أن يهبُّوا لتأييد الذين هاجموه باعتباره “زعيم المُطَبِّعين”؟ لكن هذا لم يحصل. وإنما حصل العكس تماما. ومعنى هذا أن أغلبية التعبيرات السياسية، وعموم الشعب المغربي، تتفق مع ما قام به رئيس الحكومة السابق، أي أنها تتفق مع ما يسميه “الكوفيون” ب “التطبيع”. ومعناه، بالمقابل، أن “الكوفيين” ليسوا أكثر من شرذمة لا تمثل إلا نفسها مهما ادعت لنفسها.
يُدرك المغاربة تماماً أن إسرائيل حليف سياسي. بل ويدركون أن بإمكانهم خدمة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين انطلاقا من علاقات جيدة مع الطرفين. وذلك ما ظل المغرب، ولا يزال، يقوم به انطلاقا من علاقاته المتميزة مع دولة إسرائيل ومع القيادة الفلسطينية الشرعية على حد سواء. ولا شك أن المغرب، انطلاقا من ذات الموقع، سيلعب دورا أكبر في المستقبل لصالح السلام المنشود في تلك البقعة التي ارتوت بما يكفي من الدماء حتى الآن. فالعنتريات الفارغة، والتنطع المحموم، لا تقدم للقضية شيئا. ومنذ سنة 1948 فشلت كل الجَعْجَعَات في تقديم كيس طحين واحد (أو كيس أرز واحد بتعبير وزير الخارجية ناصر بوريطة) للفلسطينيين. وبينما ساوم الجميع بالدم الفلسطيني وعليه، ظل المغرب ـ رغم علاقاته المتميزة مع إسرائيل ـ على موقفه الثابت إزاء القضية الفلسطينية. ولا ريب في أن الدبلوماسية المغربية يمكنها أن تقوم في المستقبل بدور كبير في تحقيق السلام للإسرائيليين والفلسطينيين معاً. وسيكون من المفيد الانتقال في القريب الممكن من مستوى مكاتب الاتصال إلى علاقات كاملة على مستوى السفراء بين المغرب وإسرائيل لأن هذا الوضع يسمح، في نظري، للمغرب بلعب دور حيوي في السير نحو حل نهائي للنزاع. وحبذا لو كان الدكتور سعد الدين العثماني أول سفير مغربي، بهذه الصفة الرسمية، في تل أبيب.