الكَرُّ النِّضالي

النضال، مثل الحرب تماماً، كَرٌّ وفرٌّ. ولستُ أنا من يقول ذلك مِزَاجاً. بل لعل أول مَن صاغ نظرية الكر والفر في العمل النضالي هو قائد الثورة البلشفية، فلاديمير إيليتش أوليانوف، الشهير بلقب “لينين” عندما وضع المبدأ الشهير “خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء” في كتابه المعروف الصادر سنة 1904.
ومنذ ذلك التاريخ، ربما، أضحى المبدأ إياه قاعدة تبنتها الأحزاب التي كانت وما تزال تتبنى ـ في الظاهر على الأقل! ـ النظرية الماركسية اللينينية في العمل السياسي. وبالطبع، فقد كان ولا يزال هناك مَن يتبنى النظرية إياها “إيماناً واحتساباً” مثلما كان هناك ولا يزال مَنْ يتبناها من باب بيع “التبن الأيديولوجي” (أو الديماغوجي بالأحرى!) للأتباع والمريدين.
غير أن ما يهمنا هنا ليس، بالتأكيد، تحليل أوضاع ومآلات الأحزاب المحسوبة، حقيقةً أو بُهتاناً، على هذا المنحى الأيديولوجي، والسياسي، وإنما هو الوقوف على واقعٍ ميَّزَ الساحة “النضالية” في المغرب منذ استرجاع الاستقلال سنة 1956 وإلى اليوم. فبينما غرق المناضلون طيلة الستينيات، والسبعينيات، والثمانينيات والتسعينيات، في نقاشات لا تنتهي حول “الاستراتيجية” و “التكتيك”، واستهلكوا كيلومترات من السجائر وأطناناً من التبغ داخل مقرات الأحزاب البئيسة، ظهرت فصيلة أخرى لا تعترف بتاتا ب “الفرِّ” وتتبنى “الكَرَّ” وحده أداةً ومنهجاً في “النضال”.
هذه الفصيلة تتشكل بالأساس من “مناضلات” لا يُؤْمِنَّ بتاتاً بالتراجع أمام أي شيء، ولا مكانَ في قاموسهنَّ “السياسي” للتقهقُر، أي ل “الفَرِّ”، وإنما سلاحُهُن ونهجُهُنَّ الوحيد هو “الكَرَّ” ولا شيء سواه. وهُنَّ لا يوجَدْنَ فقط داخل أحزاب اليسار، ولا ينبُتْنَ فقط داخل أحزاب اليمين، ولا “يترعرعن” فقط داخل أحزاب الوسط. بل إنهن يملأن المشهد الحزبي الوطني من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وهُنََ الوحيداتُ اللائي لم يتعَبْنَ من العمل “النضالي” منذ أن كانت في هذا البلد أحزاب. والأكيد أنهن لن يتعبن أبَدَ الدهر وأبَدَ الآبِدين ما دامت في البلاد أحزاب، وانتخابات، وما دام فيها برلمان وحكومة ومجالس تستعصي ـ من كثرتها ـ على العَدِّ والإحصاء.
مُنَاضلاتُ الكَرِّ ـ يا سادة يا كرام ـ بَلَغْنَ أعلى المراتب داخل المكاتب السياسية لأحزاب اليسار رغم أنهن لم يسمعن بماركس، ولا بلينين، ولا يعرفن شيئا عن تروتسكي ولا عن بليخانوف، ولا فكرة لهُنَّ عن الاشتراكية سواء كانت علمية أو طوباوية أو حتى قَذَّافية. لكنهن، مع ذلك، لا يتراجعن أمام أعتى أنواع القذائف. وهُنَّ على استعداد تام للتصدي بواسطة “الكَرِّ” دون “الفَرِّ” لمختلف الأعْيِرَة والأحجام الباليستية، وترويضها، واحتضانها، وتدجينها حتى. وهُنَّ يفعلن الشيء نفسَه في اليمين والوسط رغم أن لا فكرة لهُنَّ أيضا عن الليبرالية إنسانيِّهَا ومُتَوَحِّشِها، ولا يعلمن حرفاً واحداً عن مارغريت تاتشر، ولا عن رونالد ريغن، ولا عن جون روالز أو أمارتيا سِنْ.
وبينَمَا سَئِمَ المناضلون، وتعِبُوا، واكتأبوا، وغادروا الساحات لينزَوُوا في بيوتهم، أو في شرفات المقاهي البَلْهَاء، فإن مناضلات “الكَرِّ” ما فتئن يَكْرُرْن كَراًّ، ويُرَصِّعْنَ ليلَ “الزعماء”، ويُصْدِرْنَ التوصيات، ويتحكَّمْنَ في توزيع التزكيات، ويمنحن تأشيرات المرور إلى المناصب. وهُنَّ، بالمناسبة، يشكِّلْن الفئة الوحيدة التي تتجدد ويتم تشبيبُها باستمرار داخل أحزابنا ويحرص الزعماء على ألاَّ تشيخَ أبداً. فلا يكاد يمضي جيلٌ حتى تنبُت عوضاً عنه أجيالٌ يُنْسِي خَلفُها سَلَفَها. ولعل هذا هو السر الذي يجعل زعماءنا يتشبثون بكراسي الزعامة حتى الموت. فأحزابُنا ـ ولله الحمد! ـ تشكل مَشَاتِلَ حقيقية، ونشيطة، لاستنبات “طاقات” جديدة، ومتجددة، من مناضلات الكَرِّ، الشجاعات، الصنديدات، المقدامات، اللائي لا يؤمِنَّ إلا بنصف المبدأ اللينيني، أو لِنَقُل (من باب الموضوعية والإنصاف) إنهُنَّ يناضلن فَراًّ بالكَرّ. فكأنهُن (وليمُت إنشتاين بغيظه مرتين!) يتخطين سرعةً الضوء بكَرِّهِن ويتقدمن إلى الخلف، ويتقهقرن إلى الأمام، مُحَطِّمَات كل قوانين الفيزياء من أرسطو إلى فيزياء الكم. ولذلك لم تجد أحزابُنا “العتيدة” ما تفيد به اللجنة التي عينها الملك لإعداد النموذج التنموي الجديد. فهي غارقة ـ والحمد لله على كل حال ـ في فيزياء النموذج “الت(…)موي” حتى إشعار آخر.

أضف تعليق