كُلَّما ازداد غباءُ المرء أضحت قدرتُه على التفكير العقلي، والعقلاني، أكثر محدودية. وكلما تراجع العقل، والعقلانية، والمعقولية، صار الفردُ محكوماً بالانفعال. وبقدر ما يحكمُه الانفعال يصبح التحكُّم فيه أكثر سهولةً، ويكفي أن يشحنه فردٌ آخر، أو مؤسسة، أو دولة، بالمشاعر والانفعالات المطلوبة لتوجيه سلوكه إلى الوجهة المرغوب فيها.
ولعلَّ أفلاطون، وهو يكتب على مدخل أكاديميته تلك العبارة الشهيرة (لا يدخُلُها إلا مَن كان رياضياً) لم يكن يقصد أن دخول الأكاديمية يستوجب أن يكون المرء عالِمَ رياضيات. بل ربما كان المقصود هو أن دخول الأكاديمية كان يقتضي الاحتكام إلى التفكير الرياضي، العقلي، البعيد تماما عن مدارات الانفعال. فالأكاديمية لم تكن رهاناً معرفياً إلا بقدر ما كانت رهاناً سياسياً. وذلك ما انتبهت إليه حنَّة أرندت في كتابها “ما هي السياسة؟” حيث ترى أن أفلاطون كان يراهن على الأكاديمية لتغيير المدينة، أي لتغيير الدولة. وبهذا المعنى يكون الرهان السياسي، في جوهره، رهانا رياضياً بالأساس، أي أنه رهان ينهض على الحساب الدقيق لموازين القوة، ومُعادلات الربح والخسارة، وتوازنات المصالح التي بدونها لا يمكن أن تكون هناك سياسة أصلا، ولا يمكن للدولة أن تكسب لا رهان السلم ولا رهان الحرب، باعتبار فن الحرب عند أفلاطون جُزءً لا يتجزأ من فن السياسة.
إن السياسة، بما فيها فن الحرب، رهانٌ رياضي دقيق. ولا يكفي أن تكره عدوك، وتكيل له الشتائم صباح مساء، لكي تنتصر عليه أو تضمن تحقيق الردع على الأقل. وهنا بالضبط كان الفرق الشاسع، ولا يزال، بين العقل الإسرائيلي والغباء “العربي”. فقد تم، من جانب الحركة الصهيونية، وضعُ مخطط دقيق، مُحكم، بحسابات علمية لا مجال فيها للانفعال، لإنشاء دولة إسرائيل وربطها وظيفياً بمصالح القوى العالمية الكبرى، مع التغلغل داخل تلك القوى الكبرى نفسها للتأثير في مراكز القرار هناك بما يخدم مصالح الدولة الإسرائيلية الناشئة منذ سنة 1948.
أما من الجانب الآخر فقد كان خطاب القومية العربية، الذي كان يتغنى به عبد الناصر، وباقي القوميين، خطابا انفعاليا، طوباوياً، يراهن على وهم لا وجود له على أرض الواقع أصلا اسمُه “الأمة العربية” الممتدة من المحيط إلى الخليج. وأول مظاهر هذا الوهم أن الدول المحيطة بإسرائيل لم تكن عربية في يوم من الأيام. أضف إلى ذلك أن الفلسطينيين أنفسهم ليسوا عرباً. وكان كل ذنبهم، مثل شعوب شمال إفريقيا والشرق الأوسط، أن دُوَلَهُم تبنت اللغة العربية كلغة رسمية. فالمنطقة المغاربية، الممتدة من المغرب إلى ليبيا، أمازيغية بالأساس. ومصر فرعونية، وبلاد الشام هي بالأساس سُريانية (ومنها جاء اسم “سُوريا”)، والعراق تعود تركيبته الديموغرافية الأساسية إلى الشعوب التي عاشت في بلاد الرافدين منذ فجر التاريخ، من بابليين وآشوريين وغيرهم. أما العرب فهم في شبه جزيرة العرب، ينعمون بريع البترول، ويعيشون حياة البذخ والكَسَل، ولم يحدث يوماً أن واجهوا إسرائيل إلا صورياً من خلال مشاركتهم الضئيلة في حرب أكتوبر 1973. أما في ما عدا ذلك فقد كان حُكَّامُهُم، وما يزالون حتى الآن، خَدَماً لدى الأمريكيين، ولدى الإسرائيليين بالتَّبِعَة.
لقد قال الشاعر المصري الراحل، أحمد فؤاد نجم، قبل رحيله بقليل متهكماً على أحد أمراء البراميل: “إن آخر حرب دخلتموها كانت غزوة بدر”. لكنَّ خرافة “العروبة”، بكل ما تعنيه من تغييب للعقل، ظلت وما تزال بمثابة “الوعاء” الذي ظلت تُطبَخُ فيه الانفعالات الموجَّهَة ضد إسرائيل. ومن بلاد العرب، وبرعاية المخابرات الأمريكية، تم اختراع “وعاء” آخر باسم “الصحوة الإسلامية”. وهذا ليس رجماً بالغيب وإنما هو تصريح صريح أطلقه، جهاراً نهاراً، ولي عهد السعودية في الآونة الأخيرة. وداخل “الوعاء” إياه تم إنتاج مزيد من الانفعال الشعبي في مواجهة الدولة الإسرائيلية. والنتيجة هي ما حصل منذ 1948 إلى اليوم: انتصارُ إسرائيل على “العرب” وعلى “المسلمين”. وهو أمرٌ طبيعي لأن الذي ينتصر في الواقع هو الذكاء على الغباء، والعقل على الانفعال، والحسابات الرياضية الدقيقة على المهاترات. ورغم كل ما حصل، وما يحصُل، لم ينتبه أحد إلى أن محاولة هَزْمِ إسرائيل هي عينُها محاولة هَزْم الولايات المتحدة وحلفائها. وهي محاولة تشبه محاولة النظام الجزائري، في ذلك المشهد المُضحك المُبكي، إخمادَ حرائق الغابات بالبراميل المحمولة على مروحيات متهالكة، بينما كان بإمكانه ـ بإعمال قليل من العقل ـ أن يستفيد من أسطول طائرات الكنادير المغربية، وربما من مساعدات دول أخرى في هذا الباب. لكنه ترك الأسطول وفضَّل العمل بالسَّطل.
ولربما كانت كل المآسي التي حصلت بين الإسرائيليين ودول الجوار تعود إلى هذه الكلمة بالضبط: السَّطل! فطالما أن “السَّطل” هو الذي يقرر في كثير من دول المنطقة، وأحزابها، ونقاباتها، و… سيظل “المَسَاطيلُ” يتقافزون ويصرخون، وسيكون على أجيال أخرى قادمة أن تأخذ المزيد من جُرعات الغباء، وأن تسبح في مستنقعات التخلف، والخرافة، وأن تلتهم مزيدا من البرسيم!