نكسة بدون فلسفة

خَرَجَ رئيسُ النظام الإيراني، وأعني هنا الرئيس الصوري، لينطق عن الرئيس الفعلي المسمى ب “المرشد الأعلى” ويقول بأن هذا الأخير يعتقد بأن المستثمرين الأمريكيين بإمكانهم القُدُوم إلى إيران. وهو ما يعني، باللفظ الصريح، أن “الجمهورية الإسلامية” تفتح أسواقها أمام الرأسمال الأمريكي، أو لنقُل إن السيدة التي طالما تبجحت بالطهارة والعفاف تفتح فخذيها على مصراعيهما لاستقبال قضيب “الشيطان”، بل إنه ليس “الشيطان فقط” وإنما هو ـ بتعبيرها ـ كبير الشياطين أو “الشيطان الأكبر”.
التصريح، الذي تداولته وسائل الإعلام يوم أمس، أصاب الكوفيين بالصدمة. فهم ظلوا يحلمون، منذ ما سُمي ب “الطوفان”، بأن إسرائيل ستزول، وأن إيران سوف تعلن عن امتلاكها السلاح النووي، وأنها ستهزم الولايات المتحدة الأمريكية، وظل بعضهم يردد تلك الحكاية البلهاء التي تقول بأن المرشد الإيراني لم يكن يلعب مثل أترابه حين كان طفلا وكان يقول: “حين أكبر سألعب في إسرائيل”. غير أن السقوط من سماء الأحلام ـ أو هي بالأحرى سماءُ الأوهام! ـ كان مدوياً ومؤلماً. لم يلعب المرشد في إسرائيل وإنما كانت إسرائيل هي التي لعبت بالطول والعرض في جمهورية المرشد: اغتالت قادة الجيش، وقادة ما يسمى ب “الحرس الثوري”، وعلماء الفيزياء النووية، قبل أن تتدخل القاذفات الأمريكية لتُقْبِرَ ثلاثين عاماً من تبذير أموال الشعب الإيراني تحت صخور الجبال في منطقة فوردو. وها هي إيران تعلن أنها على أتم الاستعداد لإطعام “الموز لأمريكا” بعد أن ظل الكوفيون يهتفون وراءها، كما يليق بقطيع من الأغبياء يستحق اسمه، بتلك العبارة البلهاء: “الموت لأمريكا!”
إنها نكسةُ الكوفيين في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين بعد نكسة القوميين في الخامس من يونيو عام 1967. غير أن هناك، مع ذلك، فارقاً أساسياً بين النكستين. فنكسة القوميين (وكان ذلك من حسن حظهم) تساوَقَت مع انتشار فلسفتين في تلك المرحلة داخل المنطقة الناطقة بالعربية. لقد كانت الماركسية تكتسح الفضاء الفكري والسياسي، والثقافي، باعتبارها فلسفة حاضنة لما كان يسمى “حركة التحرر الوطني”. وفي الآن نفسه كانت الفلسفة الوجودية، بفضل المجهود الذي بذله الدكتور سهيل إدريس عبر مجلة “الآداب” ودار النشر التي كان يملكها، والتي كانت تحمل نفس الاسم، تنتشر هي الأخرى باعتبارها فلسفة حاضنة لأفق تحرُّر الفرد.
كان سارتر، رائد الوجودية في ذلك الزمن المُتْخَم بالدم والرصاص، يرى الماركسية فلسفة غير قابلة للتجاوز. ولذلك اختار أن يشق الطريق نحو فكرة “الاختيار” عبر قَلْبِ الأفلاطونية، أي عبر القول بأسبقية الوجود على الماهية. وكانت فكرة الاختيار تلك، بالضبط، أحد الملاذات التي فتحتها بعض الأعمال الأدبية للهاربين من النكسة في اتجاه ذواتهم. ولعل أحد الأمثلة على ذلك كان رواية “النار والاختيار” للأديبة المغربية خناثة بنونة.
اليوم، خلافا للقوميين، ينتكس الكوفيون دون أن تكون هناك فلسفة حاضنة، ولا أدبٌ حاضن، لنكسَتِهِم. ولأنهم كانوا يبيعون أوهامهم للمراهقين والشباب بالخصوص فإن حجم الخطر كبير جدا، وقد تظهر ارتدادات النكسة الكوفية في أنماط شتى من السلوك العُصابي فردياً وجماعياً. قد نرى عددا من شبابنا يقبل على المخدرات، ويدمن على الكحول، ويعتنق أفكارا سوداوية وانهزامية. وعليه، فنحن اليوم في حاجة إلى فلسفة حاضنة للنكسة الجديدة التي قادت إليها عنتريات “الخَوَانِزَة” و “القَوَامِجَة” وما تبقى من فضلات ما كان يسمى سابقا ب “اليسار المتطرف”.
إن الأمريكيين ذاهبون دون شك إلى السوق الإيرانية. وهم لن يذهبوا إلى هناك دون تحقيق مكاسب لحلفائهم الإسرائيليين. وليس من المستبعد أن يذهب الإيرانيون ـ ولو بالتدريج ـ إلى “كامب ديفيد” جديدة. وبعد أن يكون “حزب الله” قد سلَّم سلاحه لن يكون من المستبعد أيضا أن نشهد اجتياحا إسرائيليا جديدا للجنوب اللبناني، ولن يتردد العقل العسكري الإسرائيلي في “تأديب” كل مَنْ يفكر مستقبلا في إطلاق الصواريخ على “مملكة يهوذا” المعاصرة. إن كثيرا من الألم والدم لا يزال ينتظر الشرق الأوسط. وقد أيقن الجميع، بعد نكسة الكوفيين، أن تعاويذ السماء لا تحقق شيئا على الأرض. وهذا، بالضبط، هو جوهر الفلسفة الحاضنة لنكسة الكوفيين، أو التي ينبغي أن تكون حاضنة لتلك النكسة: حساباتُ الأرض تتم على الأرض لا في السماء!

رأي واحد حول “نكسة بدون فلسفة”

أضف تعليق