ماذا يريد حزب النهج؟

منذ أكتوبر 1917 صار على الساحة العالمية نظام يزعم لنفسه أنه “اشتراكي”. وهو، بالطبع، نظام البلاشفة الذين استولوا على السلطة بعد إسقاط نظام القيصر نيقولا  الثاني، ثم قاموا بالتوسع بعد ذلك في الجمهوريات المجاورة وأسسوا “الاتحاد السوفياتي”. ومنذ 1945، تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية، أضحى العالم منقسما بين معسكر غربي، رأسمالي، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وآخر شرقي، “اشتراكي”، بقيادة الاتحاد السوفياتي.

في المغرب، كما في باقي بلدان ما كان يعرف ب”العالم الثالث”، صارت “الاشتراكية” غطاءً أيديولوجياً لمواجهة الاستعمار والقوى المحلية المتحالفة معه. ولم يقتصر تبني “الاشتراكية” على الأحزاب السياسية وإنما صار يتبجح بها حتى بعض العسكريين الذين استولوا على الحكم عبر الانقلابات وحولوا بلدانهم بأكملها إلى ثكنات تُحتجز داخلها شعوبٌ وقبائل. فكان جمال عبد الناصر “اشتراكيا”، وكان القذافي “اشتراكيا”، وكان الهواري بومدين “اشتراكياً”، وكذلك كان حافظ الأسد وصدام حسين وآخرون. ولربما كان الفرق الأكبر بين المغرب وهذه البلدان هو أن المحاولات الانقلابية فشلت مثلما فشلت محاولات اغتيال الملك ومساعي “الثورة”. لكن المغرب لم يشكل مع ذلك استثناءً وتشكلت فيه أحزاب وحركات تتبنى “الاشتراكية”. وكان من أولها الحزب الشيوعي المغربي الذي تأسس سنة 1943، قبل أن يتحول إلى “حزب التحرر والاشتراكية” سنة 1968. وفي السنة الموالية، أي سنة 1969، تم حظرُه لتنشق عنه “منظمة إلى الأمام” بقيادة أبراهام السرفاتي في نفس السنة رغم أنها لم تعلن عن نفسها رسمياً إلا بعد ثلاث سنوات، أي سنة 1972.

كان مشروع المنظمة هو إسقاط الملكية وإقامة نظام “اشتراكي”. وتبنت في الآن نفسه موقفا معاديا لاستكمال الوحدة الترابية للمغرب، وأعلنت تأييدها للأطروحة الانفصالية التي كانت تروج لها الجزائر (وما تزال!) عبر “جبهة البوليساريو” باسم “تقرير المصير”. وما كان لموقف كهذا إلا أن يجلُبَ على المنظمة نقمة الدولة المغربية فتعرضت لحملة اعتقالات واسعة استمرت إلى غاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأُنْزِلَتْ بأعضائها أحكامٌ قاسية من طرف القضاء المغربي، وكان عليهم قبل ذلك أن يحُلُّوا ضيوفاً على أقبية التعذيب، وهناك جرى العَبَثُ بعوراتهم ذكوراً وإناثاً على حد سواء.

لاحقاً، في مغرب “التوافق” بين المعارضة البرلمانية والقصر، تم إطلاق سراح معتقلي المنظمة باستثناء زعيمها أبراهام السرفاتي الذي تم ترحيلُه من المغرب بدعوى أنه برازيلي وليس مغربياً. ومنذ سنة 1995 بدأ المُفْرَج عنهم من عناصر المنظمة في تأسيس “حزب النهج الديموقراطي”. ولم يحصلوا على المشروعية إلا سنة 2004 ليصير الحزب واحداً من مكونات النسيج السياسي المغربي.

ورغم أن التاريخ قد أبان بالملموس أن “الاشتراكية” لم تكن أكثر من “حُلم منتصف ليلة صيفية”  ـ إذا ما استعرنا عنوان مسرحية شكسبير الشهيرة ـ فإن “حزب النهج الديموقراطي” ظل ـ وما يزال! ـ يحلم بإقامة “نظام اشتراكي” في المغرب. فكأنه لا يرى مآلات الاتحاد السوفياتي، ولا فكرة له عن نهايات عبد الناصر والقذافي والأسد وصدام حسين وبومدين وأنظمتهم، ولا عن التخلف والبؤس الذي تغرق فيه حتى الآن كل الشعوب التي ابتُليَت بأنظمة مماثلة. ولعل الحزب يعزي نفسه بأنه كان يتبنى الاشتراكية على النمط الماوي. لكن مآل الشعب الصيني ليس أقل بؤسا رغم التقدم التكنولوجي الكبير والثقل الاقتصادي الذي تمثله الصين: دولةٌ غنية وشعب بئيس!

فحزب النهج الديموقراطي، الذي غير اسمه الآن إلى “حزب النهج الديمقراطي العمالي”، يمتطي كل المعارك الاجتماعية، ويدس عناصره في مختلف التنظيمات الشبابية، والنقابات، والتنسيقيات، مستغلا جهل القاعدة الجماهيرية الواسعة بطبيعته وتاريخه وأيديولوجيته ومواقفه، وافتقارَ أغلبية الشباب المغربي لثقافة سياسية متينة بحكم تراجع الدور التأطيري لباقي الأحزاب السياسية التي شاخت وترهلت وأصيبت بتَكَلُّس المفاصل منذ زمن بعيد. وما تزال قيادة الحزب تحمل رواسب زمن الرصاص والدم، ولم تستطع حتى الآن أن تتجاوز عقدة العبث بِعَوْرَاتِها في دهاليز المعتقلات السرية. فهي ناقمة على الدولة، وتُحَمِّلُها مسؤولية المساس بثُقُوبِها المُقدسة، وناقمة على جماهير الشعب التي لم تساير دعوتها إلى “الثورة” في السبعينيات، وتتهمها بالتخاذل وتقتص منها الآن عبر إقحامها في معارك دونكيشوتية لا جدوى من ورائها سوى التنفيس عن مكبوتات اللاوعي الفردي والجماعي لعناصر قيادة الحزب. وذلك عملاً بنظرية “حطب الثورة” التي تقوم على صناعة الضحايا والمزايدة بهم لإحراج الدولة المغربية التي يصفها الحزب في قاموسه ب”المافيا المخزنية”.

طبعاً، لا يسعُنا إلا أن نتفهم ما يعاني منه قياديو الحزب كأفراد من مخلفات زمن التعذيب والاعتقال. فليس من السهل أن يرى المرء دُبُرَه يُهتك بالقنينات الزجاجية أو ما سوى ذلك من الخوازيق. لكنَّ مستقبل شعبٍ، ورهانات بلد، وطموح أمة، تبقى كلها أكبر من دُبُرِ أيٍّ كان!

أضف تعليق