لا أعرف على وجه التحديد إن كان اسمُها “مية خليفة” أم “ميا خليفة” أم “مايا خليفة”. ففي كل مرة أجد الاسم مكتوباً بطريقة مختلفة. ولا أعرف أيضا، بحكم أصلها اللبناني، هل هناك قرابة بينها وبين “مارسيل خليفة” أم أن الأمر مجرد تشابه في الأسماء. لكني ـ لسبب لا أعلمه ـ أفضل اسم “مية” على باقي الأشكال التي يُكتب بها. ولذلك فهي، بالنسبة لي في هذا المقال، السيدة “مية خليفة”.
هذه السيدة، كما يعرف كلُّ من يعرفُها، هي نجمة نوع خاص من الأفلام يَصطلح عليه البعض ب”الأفلام الإباحية”. وبعد اعتزالها خرجت على وسائل التواصل الاجتماعي لتفند وهماً كان يروج حولها وتقول للعالم بأنها لم تحقق أي ثروة من عملها في هذا النوع من الأفلام، وأن كل ما حصلت عليه كان مبلغ 12 ألف دولار أمريكي، أي ما يزيد قليلا عن 12 مليون سنتيم مغربي.
بالمقابل، فإن مواطنها وسَمِيَّها “مارسيل خليفة”، كان بعيدا تماماً عن عالم “الإباحية”، وظل يبيع أغاني “الثورة” و”التحرر”، ويُنشد هنا وهناك عن “فلسطين” و”المقاومة” و”الفقراء”. لكنه راكم من عمله هذا ثروة تقدر، حسب ما هو منشور في وسائل الإعلام، ب 18ِ مليون دولار أمريكي، أي ما يزيد عن 18 مليار سنتيم مغربي. وما يزال حتى الآن يسعى إلى المزيد متنقلا بين دول العالم حيث يتقلب ذات اليمين وذات الشمال في نعيم الفنادق الفخمة مُتَاجراً بأغانيه عن جحيم الفقر والحرب والاستغلال.
لا نحتاج هنا إلى بيان ولا إلى برهان على أن النوع الثاني من التجارة، أي المتاجرة ب”النضال”، أكثر ربحاً وأوفرُ عائداً من المتاجرة بالجسد حتى وإن كان جسداً غَضاًّ بَضاًّ، طافحاً بمواطن اللذة ومكامن المتعة، مثل جسد الأستاذة مية خليفة حفظها الله ووقاها من كل مكروه. ذلك أن عشاق الجسد ليس بإمكانهم أن يدفعوا مثل عشاق الكراسي والعُرُوش. وتلك هي اللعبة! فحين تتزعم “النضال” تصير، تلقائيا، في مواجهة “الحُكم”. والجالسون على كراسي الحُكم يدفعون بسخاء لكل “مُعَارض” يقبل بصفقة الانتقال من المُعَارَضَة إلى “المُغَارَضَة”، أي قضاء أغراضه وأغراض الحاكمين مقابل الاستمرار في أداء دوره في مسرحية “النضال”، وبيع الوهم ل”الجماهير”. وكذلك كان! فصاحبنا مارسيل خليفة كان يرفع عقيرته بذلك الموال الشهير: “يا ملوك الظلم يا عروش الحرير!” وكنا ـ ونحن إذَّاك في عداد الجماهير المخدرة ـ نتوهم أنها صرخة إدانة. أما في الواقع فقد كانت نداءً موجهاً إلى “ملوك الظلم وعروش الحرير” لضخ الأموال في حسابات “الرفيق مارسيل” عبر تمويل حفلاته و”سمفونياته” من طرف ملوك وأمراء الخليج، بوساطة من شركاتهم الإعلامية وقنواتهم الفضائية.
كانت أغاني “الرفيق مارسيل” ومقطوعاتُه الآلاتية تملأ فضاء جميع الأنشطة السياسية والثقافية التي كان ينظمها “اليسار” بمُعتَدِلِه ومُتَطَرِّفِه. وكنا ـ ونحن حينذاك تلاميذ وطلبة ـ نخبئ أشرطة “الرفيق مارسيل” بعناية في محافظنا، ونستمع إليها في بيوتنا ليلا مع الحرص الشديد على ألاَّ يصل صوتُها إلى بيوت الجيران لأن الآذان كانت في كل مكان، وكان يتم إيهامُنا بأن تلك الأشرطة ممنوعة وأن العثور عليها بحوزتنا معناه الاعتقال. والواقع أن كل ذلك كان عبارة عن أكذوبة إذ لا شيء كان يدخل البَلَدَ في غفلة من “أصحاب الوقت”. فقد كانت عيون الدولة على ما بعد السبعينيات والثمانينيات، وكان العمل يجري في الخفاء على قدم وساق لاستيعاب واحتواء الجميع بمن فيهم أولئك الذين كان عليهم أن يزوروا الزوايا المعتمة في درب مولاي الشريف، والكوربيس، وضيعة مازيلا، وقلعة مكونة، وغيرها من أماكن الاعتقال والتعذيب السرية. وفي النهاية قَبِلَ الجميع بالانتقال من “المُعَارَضَة” إلى “المُغَارَضَة” وصار “الرفاق” وزراء ومُدَراء منهم مَنْ يملك إمبراطورية متكاملة من الضِّيَاع، ومنهم مَنْ يملك الأسهم في الشركات والأبناك، ومنهم مَنْ يملك مكاتب كبرى للمحاماة، ومنهم مَنْ يربي الخيول الأصيلة، ومن يربي الدجاج، وحتى مَنْ يترأسُ الوفد الرسمي للحُجَّاج.
وبين الأبناك والضِّيَاع ضاعت “الجماهير” وأدركت ـ أخيرا! ـ أنها كانت فريسة في وليمة الضِّبَاع. وكانت نتيجةُ ذلك عُزُوفُها عن التجمعات، والاستعراضات، ومهرجانات الخطابة الجوفاء، وصناديق الاقتراع. فالكل قد خان وهان وباع، بمن فيهم أولئك الذين تم العبث بمؤخراتهم في الأقبية السرية. فهؤلاء أيضا قد استفادوا من “جبر الضرر” وتلقى كل واحد منهم ـ مقابل مؤخرته اليابسة البائسة ـ أضعاف ما تقاضته الأستاذة مية خليفة مقابل مؤخرتها الفتية ونهديها المُتَاخِمَين لحوريات اليونان القديم. ورغم ذلك فهم لم يشبعوا، ولم يقنعوا، وها هي شهية صناعة الضحايا تستفيق لديهم من جديد فترى ضفدعاً من هنا ينط ليجتمع بِدِلْفِينٍ من هناك، وتجدهم يتقافزون لإعادة بناء “المُغَارَضَة” اليسارية من جديد.
لكن الرهان يبدو خائباً منذ البداية. فالشعب قد أدرك أن الأستاذة مية خليفة أنظَفُ وأشرف وأن “اليسار” مهما اعتدل أو تطرَّف لن يرقى إلى رفَّةٍ من طَرْفِهَا. وأعني، طبعاً، طَرْفَ العين لا “الطَّرْف” الذي أعينكم عليه…قَبَّح الله ظَنَّكُم أجمعين!